سهيل رضوان... مسارات للمعلّم الأول

14 يوليو 2024
+ الخط -
اظهر الملخص
- **بداية جديدة بعد التقاعد**: بدلاً من التقاعد، أسس سهيل رضوان فرقة الموسيقى العربية في 1991، ضمت 18 عازفاً وركزت على التراث الموسيقي الشرقي، مما أكسب "عرب الداخل" قوة فنية.

- **مسيرة تعليمية وموسيقية**: ولد في 1931، درس الموسيقى بعد النكبة، وأصبح أول معلم موسيقي عربي، أسس دائرة الموسيقى العربية في معهد "روبين" وألف كتباً للأناشيد.

- **إرث مستمر**: بعد تقاعده في 1990، قدمت فرقته عروضاً دولية ومحلية، وشاركت في تدشين القناة الفضائية الفلسطينية. توفي في أكتوبر 2023، تاركاً إرثاً فنياً وثقافياً.

يغلب في عرف الناس أن يكون بلوغ سن الستين محطة للتقاعد والراحة، لكن الموسيقي الفلسطيني ابن مدينة الناصرة، سهيل رضوان جعل من لحظة التقاعد منصة انطلاق لعمل دؤوب متواصل، أسفر عن ميلاد فرقة الموسيقى العربية، التي ضمت 18 عازفاً من أمهر الموسيقيين، وحرصت على تقديم التراث الموسيقي الشرقي، والأعمال الغنائية لأهم الملحنين والمطربين العرب.

انطلقت الفرقة في عام 1991، فأكسبت جبهة الكفاح الفني لـ"عرب الداخل" قوة وزخماً وحضوراً، وأثبتت أن سنوات الاحتلال، والاعتراف الدولي بقيام إسرائيل على أراضي فلسطين التاريخية، وحمل جوازات السفر الخاصة بالدولة العبرية، كل ذلك لم يكن ليؤثر في الانتماء العربي ولا الهوية العربية لأصحاب الأرض على اختلاف أديانهم وتوجهاتهم السياسية. فالجماهير التي ترحب بعزف البشارف والسماعيات، وتطرب لأداء القصائد والموشحات، وتتمايل مع أغنيات عبد الوهاب وأم كلثوم، لا يمكن أن تدير ظهرها للتاريخ ولا للثقافة، ولا أن تنقطع عن جذورها الفنية، التي تمثل أحد أهم مظاهر الوحدة الثقافية في مدن فلسطين التاريخية.

ولد سهيل رضوان عام 1931، أي أنه عاش 17 عاماً قبل قيام دولة الاحتلال. أبوه من قرية البروة، التي اشتهرت بكونها قرية الشاعر محمود درويش. لكن بلدات فلسطينية أخرى رعت رضوان: ولد في بيسان، وعُمد في الناصرة، وتعلم في مدارس عكا والقدس، وتنقل مع أسرته إلى صفد وغزة. يتذكر حياته في الناصرة قبل النكبة، ويتذكر لحظات سقوط المدينة في يد العصابات الصهيونية قائلاً: "كنا نعيش في عمارة البوليس يوم جاؤوا واحتلوا المدينة، اضطررنا إلى النزوح بعدما رموا قنابل على العمارة".

بعد إتمام دراسته الابتدائية في الناصرة، اختير سهيل رضوان مع ثلاثة طلاب للتعلم في مدرسة الرشيدية المرموقة في القدس. في تلك الفترة، لم يكن له أي اهتمام موسيقي، أو بتعبيره: "كنت في واد والموسيقى في واد". كان يميل إلى الرياضيات، ويتمنى أن يصبح مهندسا ميكانيكياً. ثم جاءت النكبة، وتبددت معها الآمال. لكن أقدار الفن في الناصرة هيأت له تعارفاً بموسيقار أرمني يدعى ميشيل ديرملكنيان، كان الباب الأول الذي دخل منه إلى عالم الموسيقى.

ففي عام 1952، انضم إلى جوقة الطليعة التابعة لحركة الشبيبة الشيوعيّة، التي يرأسها ديرملكنيان، وبدأ بدراسة الموسيقى معه. وفي فترة وجيزة، صار سهيل رضوان أول معلم موسيقي عربي في البلاد بعد النكبة، لكن وزارة التعليم الإسرائيلية أبعدته مع عدد من المعلمين بتهمة الشيوعية.

في أوائل الخمسينيات، صار أول مدرس للموسيقى في الناصرة، وتوثقت علاقته بالموسيقى الدينية، فقاد جوقة الترانيم الخاصة بكنيسة مار يوحنا الإنجيلية في حيفا، ثم قاد جوقة أخرى تابعة للكنيسة الأورثوذوكسية في المدينة. كانت هذه الفترة مرحلة صقل وتدريب وتحصيل للخبرات العملية. كان رضوان يرى أن لدراسة الموسيقى دوراً مهمّاً في تنمية وعيه بأهمية التراث في حضارة الشعب الفلسطيني، وتنمية وشعوره بالمسؤولية تجاه وطنه، وإشعال خوفه من اندثار ما تبقى من تراث موسيقيّ شعبي.

مع دخول عقد الستينيات، قرّر رضوان أن يستقر في مدينة حيفا. وهناك بدأت خطته لنقل خبراته الموسيقية إلى الأجيال الجديدة. أسس دائرة للموسيقى العربية في معهد "روبين" للموسيقى، ثم تولى إدارة المعهد نحو عشر سنوات، استطاع خلالها أن يكوّن جيلاً من معلمي الموسيقى ومن المطربين والعازفين الذين صاروا لاحقاً نجوم المشهد الفني في مدن فلسطين التاريخية. ترقى رضوان في السلك الإداري لوزارة المعارف والتربية، وأصبح مفتشاً لمادة الموسيقى بالوزارة التي كلفته بوضع ثلاثة كتب للأناشيد بالمدارس العربية.

سارت حياة رضوان الفنية في ثلاثة خطوط أساسية متوازية: خط التربية والتعليم والاهتمام بموسيقى المدارس العربية، وخط الاهتمام بالمواهب وتأهيل الفنانين، وأيضاً خط التحصيل العلمي الأكاديمي. في عام 1971، أنهى المستوى الأول من دراسة اللغة العربية والدراسات الإسلامة بجامعة حيفا، ليتحق بعدها بمعهد روبين في القدس، مدة ثلاث سنوات أهلته لنيل الماجستير في الثقافة الموسيقية من جامعة القدس عام 1976، وعين معلماً للموسيقى في دار المعلمين العرب بحيفا. وفي هذه الفترة أيضاً، كثّف الرجل نشاطه في جمع التراث الشعبي من الزجل الغنائي، وقدّم عدة برامج إذاعية وتلفزيونية، وفي الثمانينيات أصدر كتاباً تربوياً للمدارس العربية بعنوان "كلمة ونغم"، ترجم إلى العبريّة.

موسيقى
التحديثات الحية

يروي رضوان طرفاً من جهوده لجعل الموسيقى التراثية الفلسطينية والغناء الشرقي حاضراً دائماً. وبالطبع، وباعتباره من "عرب الداخل"، لم يكن أمامه إلا التلفزيون الإسرائيلي. يقول: "بين عامي 1972 و1984، أنتجت برامج موسيقيّة، بدءاً مِن البرنامج الموسيقي "من أجوائِنا الغنائيّة"، ثمّ برنامج "مِن ليالينا"، الذي شمل أغاني شعبيّة وأدواراً ومواويلَ منوّعة ومواويلَ نصراويّة، ثمّ أنتجت برنامج "من ألحانِنا المَحلّيّة"، لدعم وإنتاج المُلحّنين والمُغنين المَحلّيين، وأخيراً عام 1980 قدّمت برنامج "الموشّحات"، الذي أشرف عليه الموسيقي زكي سرور".

في عام 1990، خرج سهيل رضوان من خدمة وزارة المعارف للتقاعد، لكنه بدأ فصلاً مهماً جديداً من مسيرته الفنية الطويلة، متمثلاً في تأسيس فرقة الموسيقى العربية التي بدأت عملها في معهد روبين بحيفا، قبل أن تنقل عملها إلى الناصرة ضمن جمعية تطوير وتنمية الموسيقى العربية. حرص رضوان على طابع شرقي يميز الفرقة في كل أنشطتها. ظل الرجل طوال حياته يذكر باعتزاز أن الفرقة التي أنشأها حافظت على "أصالتها" من ناحية تركيبها بآلاتها الوترية وآلات الإيقاع الشرقية والناي، وتجنب آلات مثل الغيتار والبيانو والأكورديون وغيرها.

موسيقى
التحديثات الحية

في سنواتها الأولى، بدأت الفرقة في تنظيم مؤتمرات الموسيقى، والمهرجانات الفنية الغنائية. وبعد انتصاف التسعينيات، بدأت الفرقة عروضها في مهرجانات دولية وعلى مسارح كبرى، أهّلها انضمام الأصوات الواعدة لتقدم عروضاً في فرنسا والسويد، وهولندا، وإيطاليا، وإسبانيا، والنمسا، والمغرب، وأوزباكستان، وتركيا، وعدد من المدن الأميركية.

فلسطينياً، قدمت الفرقة محافلها في الناصرة، وبيت لحم، والقدس، ونابلس، وجنين، ورام الله، وبيت لحم، وأريحا. تعتز الفرقة بمحفل أحيته في قطاع غزة بمشاركة فيوليت سلامة، أقيم على مسرح الهلال الأحمر الفلسطيني في خانيونس لتدشين القناة الفضائية الفلسطينية في عام 1998.

يتذكر المهتمون بالشعر قصيدة أحمد شوقي في رثاء مصطفى لطفي المنفلوطي، التي استهلها بقوله: "اِختَرتَ يَومَ الهَولِ يَومَ وَداعِ.. وَنَعاكَ في عَصفِ الرِياحِ الناعي". فقد يشير أمير الشعراء إلى أن وفاة المنفلوطي صادفت يوم محاولة اغتيال سعد باشا زغلول، فانشغل المصريون بهذا "الهول" عن توديع المنفلوطي بتشييع لائق.

موقف مماثل أعاد نفسه مع سهيل رضوان، الذي لا يكاد يجد الباحث أي خبر منشور عن رحيله، رغم مكانته الكبيرة وتاريخه الفني الممتد، لكن العجب ينقضي، حين نكتشف أن الرجل اختار توديع هذا العالم صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مع بدء "طوفان الأقصى"، الذي شغل فلسطين والمنطقة والعالم.

كان رضوان يرى أن عرب 1948، فرع من شجرة كبيرة هي فلسطين، وأن الاحتلال يحاول أن يقطع هذا الفرع عن شجرته الأم. وكان يرى أن شحذ الذاكرة من أهم وسائل المقاومة، فكان يختار ما يعرف بـ"يوم استقلال إسرائيل"، ليذهب إلى قرية أبيه، البروة، ليقفَ على أطلال الذكريات والحارات، وعلى أنقاض الكنيسة التي هُدّمت قبل أعوام، ليتذكر الدار التي كان يسكنها الجد رضوان، الذي تشبّث بأرضِهِ ولم يغادرها بعد دخول جيش الهجناة الصهيوني. إلى أن مات في أرضِهِ بعدَ فترة وجيزة، ورفض الاحتلال تسليم جثته، أو التعريف بمكان قبره. كان سهيل رضوان قصة كفاح ونضال موسيقي، استمرت لنحو 90 عاماً.

المساهمون