عكست الدراما السورية طيلة عقود صورة العاصمة السورية دمشق بأبهى شكل في أذهان المتابع العربي وحتى السوري، إذ زخرفت الحارات والمعالم الدمشقية الكثير من المسلسلات لا سيما الاجتماعية منها، والتي تركت أثراً عند محبيها، بقصصها وشخوصها وانفعالاتها، جنباً إلى جنب مع المكان الذي كان الشخصية الغائبة والحاضرة في الأعمال كلها التي صورت في دمشق.
في أعمال درامية عدة، جالت كاميرا المخرج الليث حجو (1970)، أحياء العاصمة السورية دمشق، ووثقت جمال جوانب منها في أعمال وبؤس جوانب في أعمال أخرى، لكن مرور حجو ببعض مواقع تصوير أعماله السابقة جعله يعلن دمشق عاصمة بائسة بالمطلق، انطلاقاً من ذاكرة تصوير مشاريعه التي يعتقد أنها شاخت، مقارنة بظروف التصوير الحالية في أحياء دمشق.
يتنقل الليث حجو اليوم بين العواصم المصرية القاهرة واللبنانية بيروت والسورية دمشق، لاستكمال تصوير مسلسله "سنوات الحب والرحيل" الذي كان من المفترض أن يشارك في إخراجه حاتم علي (1962 ــ 2020). لكن محطته في دمشق، التي يعيش سكانها اليوم أسوأ ظروف معيشية واجتماعية، بسبب الغلاء ونقص المواد والأمن بطبيعة الحال، جعلته يذهب إلى وصف المشهد من وجهة نظر درامية واقعية، بإيقاع المقارنة بين فترتين. ورغم الأمنيات الوردية التي زينها حجو في منشوره المؤلم حد الرعب، إلا أن الواقع التعيس الذي مرره بين سطوره بمنشور صغير عنونه بـ"بقايا أعمال لكنّها شاخت!"، كان يقطر شجناً، أبعد بكثير من سقف البكاء.
كتب حجو على حسابه على "فيسبوك" في 19 أغسطس/ آب الحالي: "بعد العودة إلى دمشق لتصوير المشاهد المتبقية من مسلسل (سنوات الحب والرحيل)، (سفربرلك) سابقاً، وبعد رحلة طويلة من التصوير في كل من مصر ولبنان والتحضيرات الإنتاجية والفنية الكبيرة التي رافقت المسلسل، لصناعة مشاهد تحاكي الحقبة الزمنية للعمل، وعلى الرغم من مدة التصوير القصيرة في دمشق التي لم تتجاوز تسعة أيام، إلّا أنها أعادت إلي الشعور بأهمية المكان كشريك حقيقي في صناعة العمل، دمشق بشوارعها وبيوتها تشكّل مواقع تصوير جاهزة ما زالت إلى يومنا هذا لا تحتاج إلى أي إضافات". وأضاف: "في رحلتنا القصيرة مررنا بمواقع تصوير أعمال عدة سابقة (أهل الغرام، الانتظار، بقعة ضوء) وغيرها".
ولم يصدم حجو سكان دمشق الذين يعيشون واقعها اليوم، بل صدم من غادروها، بالقول: "بالنسبة لي لم تكن علامات الشيخوخة التي ارتسمت على ملامح هذه المواقع هي المتغير الوحيد، ولكن ما تغيّر أيضاً هو أسئلةُ المارة في الشوارع، حيث تبدّلت من (ما بدكم بطل للمسلسل؟!) أو (ما ناقصكم نجمة؟)، لتصبح (فيني إشحن الموبيل عندكم عالمولدة؟)، و(بدل ما تصوروا هالمسلسلات وزعولنا خبز)". لكن المفجع أكثر حين أشار إلى علامات الدهشة على وجوه الناس عند رؤيتهم لزجاجات الماء في متناول كادر العمل، وهنا سأل حجو: "هل يعقل ان تعطش دمشق؟!".
ورأى المخرج السوري أن "الأحلام أيضاً تبدّلت مع الزمن"، متسائلاً: "هل ستنهض هذه المدينة وترفع عنها وعنَّا كل ملامح الشيخوخة والتعب؟ كم أتمنى. كم أتمنى أن أعودَ لمواقع التصوير، فأرى الناس يزينونها بأحلامهم بأن يصبحوا أبطالاً ونجوماً".
الحقيقة أن الليث حجو يعتقد أن أعماله أو بقاياها قد شاخت على جدران مواقع تصويرها، لكن الواقع أن دمشق، بل البلاد بأسرها، مع سكانها كلهم شاخوا، نتيجة الإفقار لا الفقر، والإذلال لا الذل. كلها سياسة باتت تتوضح على أنها ممنهجة يدفع من خلالها النظام الحاكم المواطنين إلى المغادرة وهجرة العاصمة، لتطبيق "نظرية التجانس"، مع ناس جدد لا يشبهون ناس دمشق وشخوصها، سواء في الدراما الحياتية أو التلفزيونية.
من المهم لصناع تخليد اللحظات والمواقف أن ينقلوا تمسك سكان دمشق بمدينتهم إلى أجل يصعب التكهن بانتهائه، كما فعل الليث حجو في منشوره الذي ينفع لأن يترجم كمشهد أول في مسلسل درامي، ذو طبيعة تراجيدية، يحكمه الواقع المؤلم، والأحلام شبه الميتة.