استمع إلى الملخص
- الأفلام الوثائقية مثل "فلسطين الصغرى، يوميات حصار" و"ماء الفضة: بورتريه ذاتي لسورية" لعبت دورًا محوريًا في توثيق الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها نظام الأسد.
- هذه الأفلام، مثل "الخوذ البيضاء" و"الكهف"، أصبحت مواد أرشيفية مهمة تساهم في نقل الحقيقة وتوثيق تاريخ الثورة السورية للأجيال القادمة.
عرفت سورية بعد عام 2011 مظاهرات ومسيرات في مدن عدّة، مثلها مثل بعض الدول العربية التي وصلتها شرارة رغبة التغيير، على غرار ما حدث في تونس مثلاً، مصدر الشرارة الأولى التي انطلقت في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، على خلفية الصفعة الشهيرة التي تلقّاها محمد بوعزيزي الذي أحرق جسده بعدها، احتجاجاً على الإهانة والظلم والاستبداد الذي تعرّض له، ليغادر العالم متأثّراً بجراحه الجسدية وحروقه البالغة والنفسية، لتصبح الشرارة بعدها ناراً مزدهرة، بدءاً من 14 يناير/كانون الثاني 2011، وصولاً إلى إسقاط النظام المستبدّ لبن علي.
بعدها، انتقلت نيران هذه الثورة إلى شعوب أخرى، تتشارك في القهر والظلم والسحق والاستعباد، كالشعب السوري، الذي ازدهرت جذوته، وبدأ يخرج زَرافاتٍ ووِحداناً، منذ مارس/آذار من العام نفسه. لكنّ النظام المتوحّش لبشّار الأسد واجهها بالحديد والنار والبراميل المتفجّرة، التي تقضي على البشر والحيوان والنبات، وتفلق الإسمنت جاعلة إياه رماداً، بعد استعانته واستقوائه بدول ومليشيات عدّة، ليواجه تلك الصدور العارية التي قالت له "لا" بصوت مرتفع. بقية القصة يعرفها كلّ من تتبّع الأحداث، وصولاً إلى انتصار الثورة السورية، وحدوث ما حدث ليلة 7 ـ 8 ديسمبر/كانون الأول 2024.
هذه المقدّمة ضرورية لفهم السياق العام، وربط أفلام منتجة في تلك المرحلة بالثورة، لأنها فنّ ثوري ومتفجّر، يعشق المواجهة والتغيير والذهاب صوب الحرية والانعتاق. لذا، أُنتجت أفلام عدّة بأنواع مختلفة، خدمة للثورة، وتعريفاً بإفرازاتها (قبل الثورة وبعدها)، نظراً إلى ما تعرّض له الشعب السوري من سحق وتعذيب وسجن وقتل وتنكيل، مع بدايتها وبعد البداية بقليل، أو في فترة السكون التي استمرت سنوات.
رغم أنّ السينما الروائية وقفت مع السينما الوثائقية، تجاوزت الأخيرة الأولى لما قدّمته من وثائق بصرية وشهادات حية لضحايا وشهود عيان، ووثّقت عن قرب الثورة السورية وما حدث فيها، كـ"إلى سما" (2019) للمخرجة وعد الخطيب والبريطاني إدوارد واتس، المُرشّح لجوائز مختلفة، منها أوسكار.
لم تُفتح كلّ تلك الآفاق لهذا الفيلم السوري/البريطاني، لأنّه يحاكي الأهواء السياسية لتلك الدول، بل لأنّه نقل أوجاع فئات من المجتمع السوري، سُحقت أجساد أفرادها وطموحاتهم وآمالهم بضربات نظام الأسد وزبانيته: امرأة سورية صَوّرت نفسها في خمس سنوات في حلب، حيث كانت تعيش تحت القصف الروسي، وفي محاصرة قوات النظام السوري المدينة، مروراً بزواجها وإنجابها طفلتها سما، التي عاشت مع أمها عامها الأول تحت القصف.
جماليات عدّة في "إلى سما"، منها أنّه عكس مفهوم السينما الوثائقية وماهيتها، بالمرافقة والتسجيل والتدوين، وعدم تفويت الأحداث المهمّة، فسُجّلت لحظات مفصلية في تاريخ سورية، وشجّع الآخرين على فكرة التوثيق الذاتي للأحداث، لاستغلالها فنياً في صناعة السينما التسجيلية الحربية، للوقوف على الأحداث من وجهة نظر الشاهد الميداني المشارك فيها، ليس عبر التواتر الشفهي الذي يُصبَغ أحياناً كثيرة بالزيف والمرجعية الضعيفة.
من الأفلام الوثائقية الكثيرة، التي كشفت إجرام نظام الأسد، الوثائقي "فلسطين الصغرى، يوميات حصار" (2021) لعبد الله الخطيب الذي نقل مأساة سكّان أكبر مخيم فلسطيني في العالم، اليرموك، الموجود جنوبي دمشق، الذي حاصره نظام الأسد حصاراً شاملاً سنتين (2013 ـ 2015)، مانعاً الخروج منه والدخول إليه، وقاطعاً الماء والكهرباء والدواء وكلّ شيء، ما أدخل سكّانه في مجاعة، اضطرّتهم إلى أكل حشائش الأرض، ما سبّب موت كثيرين بسبب الأمراض المختلفة، خاصة الأطفال والشيوخ.
نقل "فلسطين الصغرى" جراح هؤلاء الفلسطينيين، بعد أنْ ذاقوا البؤس والشقاء والجوع والخوف والمرض والبرد. أكثر من هذا، قصفهم نظام الأسد بالقنابل والرصاص والقتل والتعذيب، وكلّها أوجاع استطاع الخطيب توثيقها بكاميرته، قبل إخراج الفيلم من المخيم، وعرضه في مهرجانات عدّة، فشاهد كثيرون جزءاً من تلك الأوجاع السوداء.
فيلمٌ آخر تناول الدمار والوجع في حقّ الشعب والعمران لقمع الثورة السورية ووأدها: "ماء الفضة: بورتريه ذاتي لسورية" (2014) وثائقي لأسامة محمد ووئام سيماف بدرخان، المُصَوَّر وفقاً لهما من 1001 سوري، وثّقوا الدمار والفظائع التي ارتكبت في الحرب الأهلية، عبر روايات شهود عيان مُصوّرة بالهواتف المحمولة وبُثّت على الإنترنت، ولقطات لبدرخان في حصار حمص. عُرض أولاً في "عروض خاصة" بالدورة الـ67 (14 ـ 25 مايو/أيار 2014) لمهرجان "كانّ".
كثيرة ومتنوعة وحاسمة وموجعة، تحاكي سنوات ومدناً وبلدات، تلك الأفلام الوثائقية التي تحقّقت في الثورة السورية، ويصعب ذكرها كلّها في مقالة واحدة. لكنْ، لا بدّ من التنبيه إلى بعضها وذكر أخرى سريعاً للتعريف بدورها في نقل الحاصل في سورية، من جهة، وفي نشر فكرة الثورة والتحرّر من الأنظمة الاستبدادية التي تتفنّن في قتل شعوبها وتعذيبهم وتصفيتهم. هناك مثلاً "الخوذ البيضاء" (2016) للبريطاني أورلاندو فون أينسيدل ("أوسكار" أفضل وثائقي قصير 2017)، الذي نال إعجاباً عالمياً، لقيمة موضوعه، المتمثّل بتصوير الصعوبات الكبيرة التي تواجهها فرق الدفاع المدني في سورية، بسبب القصف المستمر على المدنيين، خاصة في المناطق التي لا يسيطر عليها النظام الأسدي.
هناك أيضاً "الكهف" (2019) لفراس فياض، الذي صوّر قبله "آخر رجال حلب" (104 دقائق، 2017)، و"عن الآباء والأبناء" (2017) لطلال ديركي الذي دخل مناطق تسيطر عليها جبهة النصرة ومجموعات جهادية أخرى، لتصوير تفكيرهم وعيشهم ونظرتهم إلى الثورة ومستقبل سورية.
أفلامٌ استطاعت توثيق الجرح السوري، فأصبحت مادة أرشيفية مهمة، تُمكّن الأجيال القادمة من فهم ما كان يجري، وفي الوقت نفسه تحمي التاريخ من التزييف.