سورية في فيلمين: "أحلام المدينة" و"نجوم النهار"

25 ديسمبر 2024
من فيلم "أحلام المدينة" للمخرج محمد ملص (IMDb)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "أحلام المدينة" لمحمد ملص (1984) يعكس فترة الخمسينيات في سوريا، حيث بدأت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، ويبرز التوتر بين آمال التحرر والمخاوف من تآكل القيم التقليدية.
- "نجوم النهار" لأسامة محمد (1988) يتناول هجرة الريف إلى المدينة والسلطة الأبوية، ويعكس التوترات الاجتماعية والسياسية من خلال قصة زواج مقايضة فاشلة، ويُعتبر نقداً جريئاً للسلطة.
- يُعتبر "نجوم النهار" استشرافاً لانهيار المجتمع الريفي وتأثير المدينة، ويقدم تحليلاً لتركيبة السلطة والعنف الكامن، مما يجعله مرجعاً لفهم التغيرات في سوريا.

الحاضر يُعدِّل الماضي، أو على الأقلّ يُغيّر النظرة إليه. بالكاد لاحظنا حقائق، تَبّين أنّها كانت إعلاناً حينها عمّا كان يُعدّ مُستقبلاً لا يُمكن التنبؤ به. وعلى عكس ذلك، فإنّ جوانب الماضي، التي بدت يوماً ذات أهمية استثنائية وإشارات إلى تطوّرات المستقبل، ظهرت فيما بعد كأنّها كانت أوهاماً. ما تعيشه سورية اليوم من تطوّرات لا يُغيّر الوضع السياسي فحسب، بل يُسلّط الضوء على جوانب خفية في المجتمع السوري. فهل تُغيّر هذه التطورات نظرتنا إلى أفلام التراث السينمائي السوري؟ هل نرى فيها الآن علامات لما ظهر بعد سنوات؟ هل يبدو فجأة أنّ جوانب معينة من العقلية والأفكار، التي كانت حيّة آنذاك، ألقيت في الماضي الغابر؟

طبعت بضعُ أفلام تاريخَ السينما السورية منذ ثمانينيات القرن العشرين. وعند إعادة مشاهدتها اليوم، يُطرح سؤال: هل حاضر سورية (خلع نظام حاكم) يُعدّل قراءتنا هذه الأفلام؟

من خلال سيرة أمّ وولديها يصلون، بعد موت الأب، في حافلة ريفية، إلى دمشق للاستقرار فيها مُحمّلين بالآمال، يُصوّر محمد ملص في "أحلام المدينة" (1984) لحظة من التاريخ السوري في خمسينيات القرن العشرين، يمكن اعتبارها الفترة التي بدأ فيها المجتمع السوري، الريفي والتقليدي، بالتغيّر بسرعة. إنّه وقت يبدو فيه المستقبل مليئاً بالوعود: تحرير الفرد في الحياة الحضرية، والتنمية الاقتصادية، وارتفاع مستويات المعيشة. وهذا حين تختلط آمال المصائر الفردية بالآمال الكبيرة للأمة العربية من وحدة وتضامن. إنّه الوقت المناسب لتحقيق كافة أشكال التقدّم، رغم مخاوف بعضهم فعلياً بشأن إضعاف المجتمع القديم، الراسخ في علاقاته الاجتماعية وإيمانه. يُمكن القول، عند الالتزام بالإطار التاريخي للفيلم، إنّه افتتح فترةً انتهت للتوّ.

خابت الآمال شيئاً فشيئاً، وشهدت التنمية الاقتصادية إخفاقات أكثر من النجاحات، وظلّ الفقر سائداً، وكان تحرّر الأفراد محدوداً، ما ولّد مشاعر قلق ووحدة في بيئة ضَعف فيها التضامن، وقُضي على حرية التفكير والكتابة وما إلى ذلك، أكثر من أي حقبة سابقة. تفكّك العالم العربي، وأصبح وزنه أقلّ من أي وقت مضى. وبدلاً من الانفتاح الكبير على المستقبل، شهدت نهاية القرن الـ20 وبداية القرن الـ21 انسحاباً قسرياً للفرد، رافقه تعديل الأخلاقيات، واستياء خفيّ وصامت. تحوّل زمن الأمل إلى زمن نُسي فيه المستقبل الجماعي، واختفت المسؤولية تجاه بلدنا ومجتمعنا، بل سعينا ببساطة، أكثر فأكثر، إلى تدبّر أمورنا فقط من خلال الهجرة. مع نهاية سبعينيات القرن الـ20، خابت آمال خمسينياته، لكنّها ظلّت المعيار. "أحلام المدينة" تعبيرٌ عن حنين إلى حقبةٍ ماضية، والوعي بهشاشة الآمال التي كانت تتفتّح.

لهذا السبب، من الآن فصاعداً، يمكن القول إنّنا دخلنا عصراً آخر، لم يعد للحنين إلى السنوات السعيدة للقرن الماضي الأسبقية. هناك حديث عن "سورية الجديدة". مرة أخرى، وكما في فيلم ملص، هذه مسألة جهد جماعي، وإيمان بالمستقبل. لكنْ، كيف يختلف هذا المستقبل المتخيّل اليوم عن المستقبل الذي حلمت به الخمسينيات الماضية؟ هل نجد الأحلام نفسها عن التقدّم والحرية والتحرّر، بشكل آخر؟ أم أنّه شيء مختلف تماماً، أكثر محافظة وانطواء على الذات، أو تقهقر؟

يجب أن تُعاد اليوم مشاهدة "أحلام المدينة"، لأنّه أكثر من أي فيلم آخر يستحضر ولادة فترة انتهت للتوّ، ولنتساءل أيضاً عمّا إذا كان كلّ شيءٍ في هذا الماضي انتهى تماماً، وإذا لم تعد التطلّعات نفسها دائماً، أي الحرية الفردية والتضامن الجماعي اللذين يُحرّكان المجتمع السوري.

في البدء، نُظِر إلى "نجوم النهار" (1988) لأسامة محمد بأنّه فيلم يهتمّ بهجرة الريف إلى المدينة، وبالسلطة الأبوية في المجتمع السوري، القروي خاصة. إنّه أول فيلمٍ سوري بلهجة حكّام البلد، التي لم يكن أحد قطّ يجرؤ على الإشارة إليها علناً. لكنّ محمد اختار اللهجة العلوية لأهالي منطقته، ليجسّد بيئةً كان السوريون يجهلونها، أو غير مهتمّين بها قبل تسلّمها السلطة. لكنّ قمة الجرأة جاءت في إحالة الشخصية الرئيسية المتسلّطة إلى شخصية الرئيس السوري آنذاك. قيل يومها إنّ حافظ الأسد منع عرض الفيلم فور مشاهدته، ولم يحظَ بمشاهدته إلاّ عدد ضيئل من السوريين، لا سيما في المهرجانات الدولية التي سمحت بمشاركته فيها.

"نجوم النهار" قصّة زواج مقايضة بين عائلتين في جبال العلويين تنتهي بالفشل. خليل، الأخ الأكبر، الشخصية القمعية، يسيطر على العائلة ويتحكم بها وبممتلكاتها. يريد تزويج شقيقته سناء للدكتور معروف لدمج أملاك العائلتين. في المقابل، سيتزوّج شقيق خليل الأصم من أخت معروف. لكنّ سناء تهرب في اللحظة الأخيرة. في لغةٍ بصرية تعتني بتأطير الصورة وجمالياتها، تميّز بها جيل جديد من السينمائيين السوريين خرّيجي موسكو، ومنهم محمد ملص، نبّه الفيلم بذكاء وسخرية إلى مشاكل كان يعانيها المجتمع السوري. واستطاع ملص، بعينٍ لاقطة حسّاسة، التنبّؤ بما ستجلبه التحوّلات المفروضة من نظام تعسفي من كوارث على البلد، لعلّ أهمها علاقة الحكم بالريف السوري، العلوي خاصة، وتأثير المدينة على أحلام شباب ريفيين مهاجرين إليها، مع انهيار مرجعهم العائلي والبيئي، وخسارة الريف أبناءه. كأنّها نبوءة لما شهدته مدن كبرى في سورية، لا سيما دمشق وحمص. تبدو النبوءة الأهم في "نجوم النهار" ابتلاع دمشق المهاجرين، في مشهد أخير، تبتلع فيه أدخنة المدينة الشاب المهاجر مع أحلامه.

في قصة ارتكزت على واقع مألوف للمخرج، وكانت وصفاً قاسياً لحال بلد بأكمله، اعتمد أسامة محمد على روح دعابة سوداوية، وعلى صورة تقول الكثير. مَنحَ تحليلُ الصورة والتقاط تفاصيلها وتفكيكها الفيلمَ معاني إضافية. لا تفصيل يأتي صدفة، في الشكل واللباس والعبارات: طاقات النور المتكرّرة في مشاهد البداية، خاصة تلك التي تبدو كأنّها تعبيرٌ عن دخول حميمي في حياة العائلة/المجتمع العلوي القروي/سورية، صورة الرئيس، صُور ولافتات للمغنّي فؤاد غازي في الشوارع (المنتشرة حينها في دمشق)، كأنّ في اصطفافها وطغيانها على المشهد تذكير بصُور الحاكم اللامعدودة، تنبيه إلى تحوّلات الذوق العام (ترييف المدينة فنياً)، انهيار مجتمع القرية وترييف المدينة. الفيلم كناية عن نظام متسلّط، وفهم تركيبة السلطة وتأثيرها على أفرادها وحاضنتها، واستشراف لهذا العنف الكامن في جيل جديد، ولهذه الحكمة التي ستهمل لدى الجيل القديم (الجدّ) لتركيبة السلطة وتأثيرها على أفرادها وحاضنتها. "نجوم النهار" يستعيدُ الآن أهميته لاستشرافه المستقبل الذي أوصل السوريين إلى ما هم عليه اليوم.

المساهمون