استمع إلى الملخص
- يتميز الفيلم بقصة حب يائسة ونقد لعالم الفن، بمشاركة ممثلين مثل يحيى مهايني ومونيكا بيلوتشي، وتصوير سينمائي ديناميكي، لكنه يواجه انتقادات لضعف السيناريو وغياب العمق.
- حقق الفيلم نجاحًا في المهرجانات السينمائية، حاصلاً على جوائز متعددة وترشيح للأوسكار، مقدماً تجربة سينمائية فريدة رغم بعض العيوب.
ظهر "الرجل الذي باع ظهره" (2020) للتونسية كوثر بن هنية، بعد عشر سنوات تقريباً على اندلاع الثورة الشعبية السورية ضد حكم بشار الأسد. الثورة، التي استحالت مقتلة أهليّة توزّعت فيها دماء السوريين ومصائرهم على أيد محلية وإقليمية ودولية، استتبعتها أعمال وإبداعات فنية، استلهمتها واستهلكتها واستغلّتها وأفادتها، كأيّ حدث تاريخي فارق.
وكما تنوّعت جنسيات ومشارب الفاعلين في المقتلة السورية، جاءت مقارباتها السينمائية أيضاً، فأُنجزت أفلام روائية وتوثيقية، سورية وعربية ودولية، حاولت التأثير في الرأي العام العالمي، وحثّه على التعاطف مع السوريين. من هذه الأفلام ما أنجزته بن هنية، الذي بدا واضحاً، منذ عرضه الدولي الأول في "آفاق" الدورة 70 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، استكمال مسار مخرجته، صناعةً وإنتاجاً واستقبالاً. فالحفاوة التي قوبل بها لم تكن غريبة عن السينمائية التونسية، المتخصّصة في اقتناص الجوائز والمِنَح المهرجانية، بأعمالٍ يعلو طموحها إنجازها الفعلي. وعند النظر في الفيلم نفسه، وفي موضوعه وأسلوب طرحه، تتجلّى أكثر فأكثر حقيقة انضوائه بصفة عضو جديد في زمرة تلك الأفلام الصاخبة التي تكلّلها الجوائز.
تأخذ تلك الأفلام دورة حياة متشابهة أحياناً كثيرة، بحيث يكاد الأمر يُصبح نمطاً أو معادلة محفوظة. المثل الأقرب جغرافياً وزمنياً، ودرَّة هذا النمط، "كفرناحوم" (2018) للّبنانية نادين لبكي. لكنْ، قبل ظهور تلك الأفلام، هناك مراحل تأسيسية، خلطة ربما، تبدأ أولاً من البحث عن موضوع "تريندي" يصلح لإثارة الانتباه والتعاطف، ثم استلهام حدث "حقيقي"، وتأليف سيناريو مُبَهَّر على مقاسه، وحشوه بإسقاطات اجتماعية وسياسية، ثم تسويق تلك القصة المكتوبة في المهرجانات، وحشد الدعم المادي، ثم تصوير الفيلم نفسه بفريق عمل "متنوّع"، أمام الكاميرا وخلفها، وأخيراً عرض الفيلم في المهرجانات الإقليمية والدولية، وحصد الثمار، والاستمتاع بالنجاح والاحتفاء.
يروي "الرجل الذي باع ظهره" حكاية تفطر القلب عند كلّ ذي ضمير، وتخصّ معاناة اللاجئين السوريين في أوروبا، وصراعهم مع الحدود، وتصاريح الإقامة، في رحلة الخروج واللجوء القاسية، وما يتخلّلها من استغلال وإساءة وابتعاد عن مبادئ حقوق الإنسان في قلعة حقوق الإنسان. القصّة كتبتها بن هنيّة استلهاماً من الفنان البلجيكي فيم ديلفوي، وعمله الموشوم على ظهر السويسري تيم ستاينر، باتفاق غريب بين الاثنين، يقضي بأنْ يجول ستاينر صالات العرض في العالم ليعرض نفسه "عملاً فنياً حيّاً"، في مقابل حصوله على نسبة من الإيرادات. الأغرب أنّ هذا "العمل" اقتناه جامع أعمال فنية ألماني، مع الالتزام بسلخ جلد ستاينر حين موته، كي يتسنّى للمالك الاحتفاظ بـ"عمله الفني" على جدار منزله.
حضرت بن هنيّة معرضاً فنياً في متحف "لوفر" لأعمال ديلفوي، فرأت شابّاً بظهرٍ عارٍ موشوم بصورة العذراء مريم، يعلوها هيكل عظمي، جالساً في إحدى غرف المتحف. صُدِمتْ حين علمت أنّ وشم ظهره جزءٌ من المعرض. كتبت المسوّدة الأولى للسيناريو في خمسة أيام، وغيَّرت جنسية الفنان و"عمله"، ورفدت القصة الأصلية بقصة حبّ يائسة وهجاء حادٍ لعالم الفنّ المعاصر وسوقه. الأدوار الرئيسية أدّاها الممثل الكندي ذو الأصل السوري يحيى مهايني، والفرنسيَّان ليا ديان وكريستيان فاديم، والبلجيكي كوين دي بو، والإيطالية مونيكا بيلوتشي، واللبنانية السورية دارينا الجندي، والتونسيّان نجوى زهير وبلال سليم. تصوير اللبناني كريستوفر عون (مدير تصوير "كفرناحوم" أيضاً). في "فينيسيا"، نال مهايني جائزة أفضل ممثل، ثم عُرض عربياً في الدورة الرابعة (23 ـ 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) لـ"مهرجان الجونة السينمائي"، فنال جائزة أفضل فيلم روائي عربي. أخيراً، اختارته "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها" في القائمة القصيرة لـ"أوسكار" أفضل فيلم دولي (النسخة الـ93، 25 إبريل/ نيسان 2021). هذه دورة حياة مألوفة ومتوقّعة و"ناجحة".
في التنفيذ السينمائي، تُعيد كوثر بن هنيّة، في إطارٍ معاصر، صياغة أسطورة فاوست الذي باع نفسه للشيطان، عبر قصّة لاجئ سوري يسمح لفنان أميركي مشهور باستخدام ظهره كلوحة مرسوم عليها وشمٌ، يُمثّل "تأشيرة شينغن" ضخمة ومُفصَّلة، محاولاً تصحيح عواقب مجيئه إلى العالم في الجانب الخاطئ منه. سوريٌ حكمت عليه الحرب دخول السجن وملاحقته أمنياً، ففرَّ إلى لبنان طلباً للأمان والحرية، اللذين لم يجدهما. ثم جاءته الضربة الكبرى بزواج حبيبته وسفرها إلى بلجيكا مع زوجها الدبلوماسي السوري، فقرّر الذهاب إلى هناك بأي ثمن لاستعادتها. هناك، في أوروبا التي وصلها بقبوله الصفقة إياها، يُعرض في المتاحف كلوحة، مع إضاءة مناسبة، معطياً ظهره لجمهورٍ لا يراه، وبدوره لا يريد الجمهور رؤيته. بهذا المعنى، الفيلم ليس عن السوريين تماماً أو عن ثورتهم، قدر انشغاله بالنظرة الأوروبية للآخر اللاجئ، في مجتمع الفنانين والمؤسّسات الفنية.
الواقع أنّ الفيلم طَموح وقاصر في آنٍ، كعادة كلّ الأفلام السينمائية التونسية تقريباً، إذْ يتطرّق إلى قضية موضع جدل كبير في السنوات الأخيرة، سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً: أزمة اللاجئين. وعبرها تعامل الدول الغربية مع مبادئ حقوق الإنسان وأسسها، ممزوجة بنقد اجتماعي لتسليع البشر وأخلاقيات الفنّ المعاصر، بطريقة تُشبه ما فعله فيلما "حيوانات ليلية" للأميركي توم فورد، الفائز بجائزة الأسد الفضّي ـ جائزة لجنة التحكيم الكبرى في الدورة الـ73 (31 أغسطس/ آب ـ 10 سبتمبر/ أيلول 2016) لـ"مهرجان فينيسيا"، و"المربع" للسويدي روبن أوستلند، الفائز بالسعفة الذهبية للدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان "كانّ". كلّ ذلك على خلفية قصة حبّ، لا يدري المتفرّج هل يفوق ابتذالُها النزعةَ الاستغلالية لبقية عناصر السيناريو الأخرى المحتشدة في إطار تخطيطي متعسّف، أم العكس.
كما في فيلمها الروائي الأول "على كفّ عفريت" (2017)، لا يترجَم الاتّكاء على قصة حقيقية إلى سيناريو متماسك، حيث لا تزال بن هنيّة مُصرّة على كتابة سيناريوهات أفلامها بنفسها، ولا تزال الكتابة ضعيفة، يغيب عنها عمق الطرح، وحساسية التصعيد الدرامي، وأبسط مبادئ رسم الشخصيات، بينما تحضر سطحية الرؤية والحوارات الساذجة والمباشرة، الناطقة بلسان كاتبتها أكثر من تكلُّمِها بألسنة شخصياتها
الإخراج، بجانب منه، مدروسٌ ومميَّز، خاصة في بعض الخيارات الأسلوبية الهادفة إلى التأكيد على جماليات الفيلم، في حين تبدو بعض المشاهد كما لو كانت وافدة من مسلسل تلفزيوني لربّات البيوت. الجيد هنا تطوّر الرؤية البصرية، وديناميكيتها اللافتة في بعض المشاهد، وأداء الممثلين، الذين يعملون كقوة دافعة للفيلم بأدائهم الجذَّاب والمحسوب والمُقنِع، باستثناء مونيكا بيلوتشي، التي يمثّل اختيارها (ودورها نفسه) علامة استفهام كبيرة، وإنْ كانت مفهومة قيمتها التسويقية.
يضعف خطاب "الرجل الذي باع ظهره" تدريجياً في قرارٍ إخراجي مدروس بتجنّب الصدمة، ما يصبح أوضح مع سلسلة خلاصات شخصية تنفجر في نهاية القصة، وخاتمة تشبه المسلسلات التلفزيونية الكسولة. ورغم نبرته السردية غير المتوازنة، هناك مشاهد لافتة تساعد في إبرازه وجعله جديراً بالتوصية، فضلاً عن تقلّبات جذّابة في الحبكة وأداء جيّد لبطله.
عملٌ أكثر لطفاً من "أفلام اللاجئين" عادةً، إلّا أنه لا يصير أبداً عملاً مُعقَّداً أو عميقاً.