احتفالٌ فرنسي بالسينما الآسيوية: الهوية وتساؤلات أخرى

31 يناير 2022
"لكمة جَنْسَان" لبراينت مِندوزا: ملاكمة تتحدّى الإعاقة (الملف الصحافي)
+ الخط -

كان مهرجاناً جريئاً وصغيراً في بلدةٍ صغيرة، إلى درجةٍ أنْ لا شيء يُثير الاهتمام بها، والانتباه إليها، وزيارتها، أو المرور فيها. المغنّي، الرائع بصوته وبكلمات أغنياته وموسيقاه، ذكرها في جملةٍ، أضافت إلى سُمعتها ما لم يكن حقّاً عادلاً. آنذاك، غنّى جاك بريل "فزول"، مُردِّداً للحبيبة: "أردتِ أنْ تري فزول، ها قد رأينا فزول"، أي: حتّى هذا فعلتُهُ من أجلك، فماذا تريدين بعد؟ مُشاكسٌ بريل، لكنْ بحقّ كثيرين، لا فزول فقط.

هذه المدينة الصغيرة، الواقعة في شرق فرنسا، باتت لها سُمعة مُدهشة، عالمية وآسيوية تحديداً، منذ مغامرة الزوجين مارتين وجان ـ مارك تيروان، اللذين ـ لشغفهما بآسيا وسينماها ـ أسّسا مهرجاناً فيها لتلك السينما، عام 1995، "مهرجان فزول الدولي لسينمات آسيا"، ليكون المهرجان الوحيد أوروبياً المهتمّ سينمائياً بهذا الجزء من العالم.

اليوم، يستحقّ المهرجان لقب "عميد المهرجانات الآسيوية في أوروبا". فمدينة فزول، التي يبلغ عدد سكانها 14 ألفاً و914 نسمة (2019)، استقطبت نحو 33 ألف مُشاهدٍ في صالاتها، لحضور الدورة الأخيرة للمهرجان عام 2020، علماً أنّ دورة عام 2021 أُلغِيَت بسبب كورونا. باتت المدينة مركزاً فرنسياً، بل أوروبياً، وموعداً لسينما المؤلّف الآسيوية، يأتي إليه محبّو هذه السينما من أماكن عدّة.

الدورة الـ28 (1 ـ 8 فبراير/شباط 2022) ستكون غنية. كأنّها احتفالٌ بعودة السينما، مع 84 فيلماً، نصفها لم يُعرض سابقاً، ما يؤكّد الهوية الاستكشافية للمهرجان، بأقسامه وجوائزه. لجنة التحكيم الدولية تترأّسها الممثلة الإيرانية ليلى حاتمي. هناك لجنة من "نيتباك ـ هيئة ترويج السينما الآسيوية"، ولجان مؤلّفة من شبابٍ ويافعين، لتعريف الأجيال الجديدة على سينما غنية، لا تزال محدودة الانتشار في الصالات. هناك أيضاً تحكيم الجمهور.

في "وجوه السينما الآسيوية المعاصرة"، مسابقتان للفيلمين الطويلين، الروائي والوثائقي، مع أفلامٍ لم تُعرض سابقاً، في فرنسا على الأقل. 9 أفلام في المسابقة الروائية، مع إتاحة فرصةٍ للتعرّف على تظاهرات أخرى، متنوّعة وغنيّة. أفلامٌ لمواهب جديدة، وأخرى لمُكرّسين ومشهورين، كالفيليبّيني براينت مِندوزا، الذي يحضر مع "لكمة جَنْسَان" (2021)، في نظرة على الملاكمة، رياضة الفقراء في بلده، ووسيلتهم لتلبية حاجاتهم الأساسية، وآمالهم بحياة أفضل، علماً أنّها رياضة تحقيق الذات في اليابان. رياضيّ ياباني مُعوَّق يذهب إلى الفيليّبين لممارسة الملاكمة الاحترافية، بعد يأسه من ممارستها في بلده. في توجّه مُعاكس، تأتي 3 فتيات شابات فيتناميات إلى اليابان، فيواجِهن ظروفَ عملٍ قاسية، ومشاكل إقامة غير مشروعة، بحثاً عن الهوية، في "بجوار البحر" (2020)، للياباني فوجيموتو آكيو.

أما مصطفى سروار فاروقي (بنغلادش)، فـ"يُقدّم تفسيراً سينمائيّاً لبعض المشاعر الشخصية"، والصدمة التي تُحدثها الهوية، لما لها من دور مهمّ في طريقة تفكيره ورؤيته العالم. في فيلمه السابع، "نو مانز لاند" (2020)، يُثير قصّةَ اختفاء نافين، أو سمير (الممثل الهندي نواز الدين صديقي)، الذي لا يستطيع قول الحقيقة بشأن أيّ شيء، بما في ذلك اسمه وجنسيته ودينه وعائلته وخلفيته. مُضطهدٌ في بلدٍ لكونه "غير مسلم"، وفي آخر لكونه "مسلماً"، يجد ملاذاً مؤقّتاً في الحماية الظاهرة لهوية ملفّقة. نظرةٌ ثاقبة على عزلة أفراد في مجتمع مُجزّأ، للتذكير بأن الجميعَ مرتبطون، بشكلٍ أو بآخر، بالأشخاص والأشياء حولهم. ومن أوزبكستان، حكاية شخص حقيقيّ، وواقعه وكرامته وحقيقته، التي (الحقيقة) تنبثق عبر الزمن، وتنمو وتتخطّى حدود التاريخ والعقليات والجنسية والعرق، لبلوغ إحساسٍ حقيقيّ بالإنسانية، كما يُعرّف يولكين تويتشييف فيلمه "2000 أغنية لفريدا" (2020).

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

من إيران، ثالث فيلمٍ لرضا درميشيان، "لا خيار" (2020، العنوان الفارسي: Majboorim): 3 نساء من خلفيات اجتماعية مختلفة، وطروحات عن بيع الأطفال، وقضية المُشرّدين، والشكّ بمؤامرة تدبير الموت الرحيم لهم، للتخلّص من أعدادهم المتزايدة.

تهدف مسابقة الوثائقيّ إلى حوارٍ بين الشرق والغرب، باختيار أفلامٍ، يُلقي بعضها نظرةً غربية على آسيا، وبعضها الآخر لمخرجين ذوي أصول آسيوية، يُقيمون في الغرب، كالفلسطيني إياد الأسطل، المُقيم في فرنسا، وفيلمه "غزة، رصاصة في القدم"، عن فريق كرة قدم فلسطيني مُكوّن من صغارٍ مبتوري الأطراف، بسبب الحروب الإسرائيلية، يُدْعَون إلى فرنسا للّعب ضد المنتخب الفرنسي. أثناء إقامتهم في فرنسا، لا ينسون بلدهم، الذي يفتخرون بتمثيله، ويُعطون درساً في الحياة والمرونة والأمل. 6 أفلام أخرى من بنغلادش وكمبوديا والهند وإيران وإسرائيل ولاوس.

يُتيح "عرض أول"، القسم الخاص بأفلامٍ تُعرض قبل إطلاقها في الصالات الفرنسية، فرصة اكتشاف جيل إيراني صاعد، يُعوِّض غياب الكبار، مع أول فيلم لباناه بناهي، نجل جعفر بناهي، مخرج "انطلق إلى الطريق": مُتجّهةً إلى ناحيةٍ سرّية، تعبر عائلة في مناطق في شمال إيران، ذات مناظر طبيعية ساحرة. في السيارة، تساؤلات عن الأب ذي الساق المجبَّرة، والأم التي لا تكفّ عن الضحك، والصغير الذي لا يتوقّف عن المزاح والغناء والرقص. لكنْ، هل كُسرت ساق الأب حقّاً؟ هل تحاول الأم منع نفسها من البكاء؟ ما قصّة الأخ الغامض، والكلب المريض؟ توتّر يتصاعد مع موسيقى كلاسيكية وتراثية، يتردّد صداها في فيلمٍ يتأرجح بين المأساة والفكاهة المرّة. يُعرض أيضاً الياباني "عائلة أساداس" (2020) لريوتا ناكامو، والتركي "بين فجرين" (2021) لسلمان نصار.

لأنّ السينما صدى رهانات سياسية واقتصادية واجتماعية، وانعكاس للمجتمع في وقتٍ من تاريخه، يُقدّم المهرجان تظاهرة "التاريخ كخلفية"، مع 18 فيلماً غير تاريخي، لكنّه يُبدي "كم يُقولب العصر مفاهيم الذين يعيشونه، وكيف يصوغ التاريخ العام، ويؤثّر على التاريخ الصغير، المتجسّد في يوميات كلّ فرد". أفلامٌ عدّة، كـ"دار الأيتام" للأفغانية شهربانوسادات، وفيلم التحريك "ربيع طهران" (2011) لعلي صمادي أحدي، عن أحداث انتخابات 2009 الرئاسية، و"إلى اللقاء يا ولدي" (2019) للصيني وانغ سياو شواي، وأفلام عربية كـ"ذيب" (2014) لناجي أبو نوار، و"القضية 23" (2017) للّبناني زياد دويري، و"الموعودة" (2014) للفلسطينية سهى عراف، وأفلام من كمبوديا وكوريا والهند والصين وجورجيا واليابان والفيليبين وسنغافورة، وغيرها.

كما ستُلقى "نظرة على طريق الحرير" لإبداء التنوّع في الإرث الثقافي المشترك لـ7 بلدان على طريق الحرير: طاجيكستان وتركمانستان وأفغانستان وكازاخستان وأوزبكستان وقيرغستان وإيران، مع 20 فيلماً، ستكون مُشاهدتها مجدّداً فرصة لا تُعوّض، كـ"قندهار" (2001) لمحسن مخملباف، و"الحياة على سطح الماء" (2005) لمحمد رسول أف، و"3 وجوه" (2018) لجعفر بناهي.

استعادة أولى للصيني تسي في، المنتمي إلى الجيل السينمائي الرابع في بلده، والذي أتاحت أفلامه ولادة مواهب من أجيالٍ سينمائية لاحقة. تعرض له 6 أفلام، منها أفلام فائزة في مهرجانات دولية، كبرلين ومونتريال: "الثلج الأسود" (1990) و"نساء البحيرة ذوات الروح العطرة" (1995) و"حكايا منغولية" (1995). وثانية للياباني الشاب كوجي فوكادا (40 عاماً)، تُعرض فيها أفلامه الـ10، التي بفضلها جَدّد سينما البلد الذي لا تغيب عنه الشمس، في الـ20 عاماً الماضية.

المساهمون