أبو العلا محمد... السُّكنى في أبيات القصائد

06 يناير 2021
انبهرت أم كلثوم مبكراً بصوت الشيخ أبو العلا وغنائه (Getty)
+ الخط -

لأسباب كثيرة، أدار الشيخ أبو العلا محمد ظهره لقوالب الغناء العربي، وولى وجهه شطر "القصيدة"، فلم يكن في عصره من يفوقه إحاطة بالقصائد المغناة رواية ودراية، فأعطاها حياته، تلحينا وغناء، وحفظا وتحفيظا، ورعاية وتشجيعا لمن يتفوق في أدائها.

ولم يكن لـ"الموشح" ولا "الدور" ولا "الطقطوقة"، نصيب يذكر من جهد الرجل، الذي نال مكانته التاريخية في مسيرة الغناء بالقصائد وحدها. الشيخ أبو العلا، هو أحد أنجب تلاميذ نابغة القرن التاسع عشر، عبده الحامولي. أخذ عنه أصول الفن تلحينا وغناء، وحفظ ثروة ضخمة من روائع الأدوار والموشحات، لكنه حين تصدى للتلحين، لم يعط جهده إلا للقصائد، من عيون الشعر العربي وروائعه.

ولأن الرجل من شيوخ الفن بإجماع المختصين، ولأنه ملحن مكين، حافظ للتراث، فإن انحيازه للقصيدة يؤكد أنه كان صاحب مشروع، محدد المعالم، واضح الطريق، له هدف وحيد، يتمثل في الارتقاء بفن الغناء، والتحفيز على التعامل مع النصوص العربية الرصينة، وتغيير صورة المشهد الغنائي، التي أصابها كثير من التراجع خلال سنوات الحرب العالمية الأولى وبعدها... وكل ذلك من خلال قالب غنائي لا يسمح بأي شكل من أشكال الابتذال النصي أو التلحيني أو الغنائي، ولم يكن هذا القالب إلا القصيدة. لكن مع الإقرار بمكانة الشيخ أبو العلا الفنية، وقيمته المقدرة باعتباره أحد رواد تلحين القصيدة العربية، فإن علاقة الرجل بأم كلثوم كانت السبب الرئيس في شهرته، وتعرف الأجيال المتأخرة على فنه وألحانه.

الشيخ كان أحد المكتشفين المبكرين لصوت الطفلة أم كلثوم، بعد لقائهما الشهير على محطة قطار السنبلاوين بمحافظة الدقهلية، وكان له دور كبير في إقناع والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي بالانتقال إلى القاهرة. ثم كان له دور كبير في رعاية أم كلثوم فنياً خلال سنواتها الأولى في "المحروسة".

تلك الرعاية التي يرى مؤرخو السيرة الكلثومية أنها كانت ضرورية جداً إلى جانب الرعاية الاجتماعية التي قدمها الشيخ مصطفى عبد الرازق للمطربة الصاعدة. وقد انبهرت أم كلثوم مبكرا بصوت الشيخ أبو العلا وغنائه، حين كانت تستمع إلى أسطواناته على الفونوغراف في بيت عمدة قريتها، واعتبرته صاحب "أجمل حس" في الدنيا. وهذا أمر غريب جدا، لأن الشيخ أبو العلا لم يكن يوما من المنافسين على المكانة الأولى بين المغنين. نعم، هو ملحن قدير، ومطرب ممتاز بدأت شركات الأسطوانات في التعامل معه ربما منذ عام 1912، وتحديدا مع شركة "جرامافون"، ثم توالت تسجيلاته لشركات ميشيان، وبيضافون، وبوليفون، ما يؤكد أن أعماله حققت رواجا كبيرا، لكنه كان معاصرا لعدد كبير من فطاحل المغنين، وأصحاب الأصوات شديدة الجمال.

انبهرت أم كلثوم مبكرا بصوت الشيخ أبو العلا وغنائه، حين كانت تستمع إلى أسطواناته على الفونوغراف في بيت عمدة قريتها، واعتبرته صاحب "أجمل حس" في الدنيا

لم تؤخذ أم كلثوم بصوت الشيخ يوسف المنيلاوي مثلا، ولا بصوت عبد الحي حلمي، وإنما فتنت بصوت أبو العلا محمد وغنائه الرصين للقصائد الفخمة. وربما كان من السهل أن نفسر افتتان أم كلثوم الطفلة بصوت الشيخ أبو العلا وغنائه، بكونها لم يتح لها ــ حينها ــ الاستماع إلى غيره من كبار المطربين، أو بإعجابها بأدائه لنصوص تتسم بالوقار والرصانة. لكن سيصعب مد الخط على استقامته حين نرى أن أم كلثوم تمسكت بموقفها هذا طول حياتها، رغم شهرتها واطلاعها وتحصيلها لخبرة فنية كبيرة. فقد ظل الشيخ أبو العلا في نظر أم كلثوم واحدا من أهم الموسيقيين العرب، كما ظل صاحب الصوت الأجمل، الذي لم تسمع سيدة الطرب له نظيرا.

غنت أم كلثوم 9 أو 10 ألحان للشيخ أبو العلا، وبالطبع كلها قصائد كان الشيخ قد لحنها وغناها قبل أن تؤديها أم كلثوم بسنوات، وبعضها سجله لشركات الأسطوانات، فهو لم يضع ألحانا مخصوصة للفتاة الموهوبة التي أصر على انتقالها من قريتها إلى القاهرة. ربما يمكن أن نستثني قصيدة أحمد رامي "الصب تفضحه عيونه"، التي يغلب أن يكون أبو العلا قد لحنها لأم كلثوم وشدت بها على الأرجح عام 1924 قبل أن يعود رامي من باريس، ويقع أسيرا لصوتها.

قائمة القصائد التي شدت بها أم كلثوم من ألحان أبو العلا، يمكن اعتبارها عينة صادقة لطريقة الرجل في اختيار النصوص وتظهر انحيازه لروائع الشعر العربي الرصين، ونطالع فيها أسماء الشعراء: صفي الدين الحلي، ابن النبيه المصري، بكر بن النطاح الحنفي، الإمام عبد الله الشبراوي، إسماعيل باشا صبري، علي الجارم. وفي كل هذه القصائد، التزم الشيخ أبو العلا إيقاع الواحدة الكبيرة، وفرض سيرا لحنيا صارما، وهيكلا متينا واضحا... فألحان القصائد قبل الرجل كانت أشبه بمقترح نغمي، يسمح للمطرب بمساحة واسعة من التصرف والارتجال، وخلال السير باللحن يحافظ المطرب على مقام الاستهلال والختام، وإيقاع الواحدة الكبيرة، ثم يتصرف كما يشاء في أجزاء اللحن... وليس أدل على ذلك من تلك التسجيلات الكثيرة التي وصلتنا لقصيدة "أراك عصي الدمع" بلحن عبده الحمولي وبأصوات عدد كبير من المطربين، حيث يجد المستمع اختلافات هائلة في أداء اللحن، ليس بين مطرب وآخر فقط، بل حتى بين تسجيلين مختلفين للمطرب نفسه...

كل هذا يصب في تقوية رأي من يرى أن الشيخ أبو العلا محمد هو أول من وضع لحنا كاملا واضحا صارما للقصيدة العربية المغناة. ومن أشهر القصائد التي لحنها أبو العلا، وشدت بها بعد ذلك أم كلثوم قصيدة "وحقك أنت المنى والطلب" وهي من أجلّ قصائد الغناء العربي.. وضع أبياتها الإمام عبد الله الشبراوي، شيخ الجامع الأزهر، المتوفي عام 1758 ميلادي، وهو الإمام السابع في سلسلة شيوخ الأزهر.

 كان فقيها شافعيا وأصوليا كبيرا، ترجم له الجبرتي قائلا: "الإمام، الفقيه، المحدث، الأصولي، المتكلم، الماهر، الشاعر، الأديب…"، جاءت القصيدة في 16 بيتا، متسمة بقوة التعبير، وجزالة اللفظ، ورقة الشعور، وهي بلا شك من عيون الشعر الغزلي في العموم، والشعر المُغنى على وجه الخصوص... ويقول مطلعها: وَحــقــك أَنت المنى وَالــطَلَب .. وَأَنتَ الــمـُراد وَأَنـــتَ الأرب وَلي فيكَ يــــا هاجِري صَبوة .. تـحير فـي وَصفِها كـــل صَبّ، ولحنها خير مثال للنهج الذي اختطه الشيخ أبو العلا، والمقام المختار هنا هو الهزام، لكن مع البيت الرابع نجد مراوحة بين الراست والبياتي، فلا يعود إلى الهزام إلا في البيت الأخير، إعمالا للقاعدة الراسخة عند أرباب الفن، من ضرورة إقفال اللحن من نفس المقام الذي استُهل منه... وقد سجل القصيدة عدد من كبار المطربين، وقيل إن الشيخ محمد رفعت سجله أيضا، ولم يصلنا أي أثر يؤكد ذلك. لكن الرواية تبين أن اللحن كان محل تقدير فني وأدبي، حتى في أوساط القراء والعلماء. كما أنها لاقت رواجا جماهيريا كبيرا، يدل عليه حرص شركات الأسطوانات على تسجيلها، فقد غناها أبو العلا لشركات "ميشان" و"بيضافون" و"جرامافون".

في كل قصائد الشيخ أبو العلا، يلاحظ المستمع مدى تأثر أم كلثوم بغناء الرجل، إذ تؤدي اللحن بنفس التفاصيل التي أداها الشيخ أبو العلا في تسجيلاته، وبدرجة تصل حد التطابق

ومن المهم أن ننتبه إلى أن كلمات القافية في هذه القصيدة لا تضم حروف مد أو لين، فكلها باء ساكنة قد انفتح ما قبلها، وهذا النوع من القوافي يُصعب مهمة الملحن، لا سيما إذا كان من طراز الشيخ أبو العلا، حيث الإصرار على فصاحة اللفظ، وترك مد ما لا مد فيه، فلا يستخدم الألفات المضافة لتليين الكلام، بأن يقول في لفظة "الطلب" الطلاااب... وفي "الأرب" الأرااب… كما أن هذا النوع من القوافي يحتاج إلى مطرب مدرب على القفلات المحكمة، وخير تدريب على هذا الميدان تلاوة القرآن والإنشاد الديني، وهو ما أخذت منه أم كلثوم بحظ وافر.

وفي هذه القصيدة، بل في كل قصائد الشيخ أبو العلا، يلاحظ المستمع مدى تأثر أم كلثوم بغناء الرجل، إذ تؤدي اللحن بنفس التفاصيل التي أداها الشيخ أبو العلا في تسجيلاته، وبدرجة تصل حد التطابق. ولفيكتور سحاب ملاحظة مهمة، إذ يرى أن اللحن يذكر حتما بقصيدة عبد الوهاب، علموه كيف يجفو فجفا، وبما أن لحن أبو العلا متقدم على لحن عبد الوهاب، فإن سحاب يجزم أن الأخير تأثر حتما تأثرا واضحا وخلاقا بهذا اللحن. في الخامس من يناير عام 1927، رحل الشيخ أبو العلا محمد، وهو في أربعينات عمره، بعد أن قضى أواخر حياته قعيدا لا يقوى على الكلام ولا الغناء.

وبلغ تقدير أم كلثوم له واحترامها لشخصه وفنه غايته، حين قررت أن تحطم كل الأعراف والتقاليد، وتسير خلف نعش أستاذها، وتناقل بعض معاصري الحدث أنها مشت في الجنازة حافية القدمين.. لكن الشيخ كان قد حفظ مكانته في تاريخ تلحين القصيدة العربية وتطويرها، بعد صار واحدا من الفرسان الأربعة الذين نضجت القصيدة المغناة على أنغامهم: عبده الحمولي، أبو العلا محمد، محمد عبد الوهاب، رياض السنباطي.

المساهمون