"أعشاب جافة"... ثرثرة فوق الأناضول

28 يوليو 2024
"أعشاب جافة": عدمية خبيثة وتلاعب ماهر (الملف الصحافي)
+ الخط -

الأناضول مكان شاسع. لكنّه، بالنسبة إلى كثيرين، كان دائماً منطقة عبور. شبه جزيرة (شرقي البحر الأبيض المتوسط) مُدمجة حالياً بتركيا، تربط الشرق بالغرب، وأوروبا بآسيا. لذا، تبدو جغرافيا مثاليّة لبيان معضلة انتماء وهوية وتفكير. منطقةٌ ذات كثافة سكّانية منخفضة، تغطّيها مناظر طبيعية أو ثلجية، تمتدّ فيها حقول وجبال مهجورة، ربما لم يتسلّقها أحدٌ، أو فعل أحدٌ ذلك قديماً، بحيث لم يعد هناك أثر لمروره فيها.

هذه الجغرافيا الفريدة والاستثنائية ملعب السينمائي التركي نوري بيلغي جيلان، و"أعشاب جافة" (2023، ترجمة عربية للعنوان الفرنسي) لا يخرج عن القاعدة: شخصيات عالقة، في مكانها وشرطها الإنساني، بين ما تصبو إليه وما تستطيع فعله. عنوان فيلمه الأسبق "ذات مرة في الأناضول" (2011) يسير على صيغة عامة نموذجية لبداية أي قصة، لكنّه دال وكاشف بشكل خاص عند تطبيقه على هذه المنطقة تحديداً، حيث "ذات مرة" بعيدة ومدهشة ولا تُنسى، لكنّها تحدث لتُنسى بشكلٍ لا رجعة فيه، ككلّ شيء في هذه الطبيعة الجميلة والقاسية.

وُلد جيلان في إسطنبول، عام 1959، حيث درس واستمتع بجزء كبير من شبابه. لكنه تعرَّف سريعاً إلى الأناضول وأحبّه، أقلّه سينمائياً. بالنسبة إلى من لديه عقلية كوزموبوليتية، فكرة العبور في هذا الموقع الشاسع تسمح له بكشف صراعات وجودية عدّة، مشتقّة من الازدواجية الخالصة والأبدية بين الإنسان والطبيعة. الإنسان يمرّ، وتبقى الطبيعة. في الأناضول، يأخذ العبور والاستمرارية أبعاداً مختلفة، في نزوة وقت يبدو أنه يمرّ، بالتساوي، بإيقاعٍ آخر. أو ربما لا يمرّ أبداً.

هناك كلامٌ كثير عن الطول المفرط لأفلامه. مدّة "ذات مرة في الأناضول" تبلغ 150 دقيقة، بينما تبلغ مدّة "سبات شتوي" (2014) 196 دقيقة، و"شجرة الإجاص البرّية" (2018) 188 دقيقة، كفيلمه الأخير: 197 دقيقة. لكنّها ليست أفلاماً "بطيئة" بل "طويلة". هذه مصطلحات مختلفة منطقياً، بصرف النظر عن حقيقة أنّه يمكن دمجها، رغم أنّها تسبّب خلطاً عند تطبيقها على فيلمٍ. لم يكن أيّ منها بطيئاً، لكنّها تركت معظم مشاهدها، خاصة بعض المحادثات، تدوم فترة أطول من المعتاد: الحدث السينمائي ليس متسرّعاً ولا تشويقياً، والشخصيات ليست صامتة. لكنْ، كلّ هذه الديناميكية، في كلّ تسلسل، تحتلّ المزيد من الوقت.

هذه الأحداث والحوارات تأخذ مكانة وأهمية أكبر، مقارنة بأشخاص آخرين في أجزاء أخرى من العالم، ممن لديهم أسلوب حياة مختلف. هذا سبب أهمية كلّ إيماءة وكلّ كلمة عندما تعيش في الأناضول. كما لو أنّ سكانه يريدون الاستفادة من كلّ لحظة يمكنهم فيها الكشف عن شيءٍ من إنسانيتهم، بدل الاستغراق في الجمود والوحدة المحيطَين بهم.

هذا مدخل جدير بتحديد جوهر "أعشاب جافّة"، الذي يكمل مع فيلميه السابقين ثلاثية: أفلامٌ طويلة، في مركزها رجال منعزلون في أجزاء نائية من البلد، حيث عزلة البطل تغذّي نزعته الأنانية وكراهية البشر والعدمية.

ساميت (أو صمد) مُدرّس شابّ، أنهى سنته الرابعة من الخدمة الإلزامية في قرية نائية في الأناضول. يدّعي أنًه تخلّى فعلياً عن كلّ المُثل العليا، باستثناء فكرة مغادرة "مكبّ النفايات" هذا، مُفضّلاً الانتقال إلى العاصمة. لكنْ، يبدو أنّ الوقت ساكنٌ في مكان كهذا. سيضطر (البطل ـ الضدّ) إلى التعوّد على العادات والأشخاص حوله، بينهم مدرّسان آخران: كِنان، زميله في السكن والمدرسة، ونوراي (ميرفي ديزدار، أفضل ممثلة في مهرجان "كانّ 2023")، شابة تعمل في بلدة أكبر نسبياً، ستكون مركز مثلث حبّ مربك. كلاهما يجعلانه يتساءل عن مفهومه عن الآخرين وعن نفسه، لأنّه بقدر ما يبدو واثقاً من نفسه ومن عدم حاجته إلى أي شخص، يهتزّ هذا اليقين سريعاً.

يمضي البطل وقته في ممارسة العدمية الخبيثة، والتلاعب بطلاّبه بمهارة. لكنّ اتهامات بسلوك غير لائق مع طالبات تُثير مشاعره المتقلّبة، وتطرح أسئلة وجودية مهمّة. هل يجب أنْ يكون كلّ شخص بطلاً؟ هل لدينا الحق في معاداة البطولة في الأوقات التي نشعر فيها بالتعب من الأمل؟

لم يفقد نوري بيلجي جيلان ذرّة من ذكاء اشتغالاته. "أعشاب جافة" رواية مستدامة، تتجلّى في شكل سينمائي، معتمدة على تراث الأدب الكلاسيكي الروسي، وإرث الواقعية الإيطالية الجديدة، وتلعب مع المنظور وتقاليد البناء السينمائي، وتظهر الجمال المرعب للعقل البشري.

مستنداً إلى سيناريو كتبه مع زوجته إبرو جيلان والكاتب أكين أكسو، يرسم جيلان مثلث حبّ ملتبساً. يلتقي صمد وكنان، بحثاً عن الحب، نوراي، الناشطة اليسارية التي فَقدت ساقها اليمنى في هجومٍ انتحاري. الأفضل في الآخرين يؤدّي إلى الأسوأ في البطل. الرومانسية الناشئة بين نوراي وكنان تُبرز الوحش فيه. يريد تشويه القبيح في الآخرين. في مرحلة ما، يفتح باباً ليجد نفسه في موقع سينمائي، به أجهزة عرض وكابلات وفنيّون. ينظر إلى نفسه في المرآة، ثم يستدير بعيداً لينظر إلى المتفرّج. كأنّه يقول: "كلّ شيء سينما. سأذهب وراء إيماءتي. هل تتابعني؟".

يُطوّر الثلاثي علاقة نقية وسامّة. تعاني نوراي من أن يُنظر إليها أو أن تُعرَّف من خلال إعاقتها، ويُصيبها شيء من "التعب من الأمل". الجزء الأخير ثرثارٌ قليلاً. العشاء بين صمد ونوراي تبادلٌ متوالد عن الخير والشر، والالتزام واللامبالاة، والفردية والجماعية. الحوار طويلٌ جداً. المواجهة بين العالمين لا تترك مجالاً كبيراً للحياد، والمرء بالضرورة شريك في معسكر أو آخر. فجأة، يُصوّر جيلان طبيعة لا مثيل لها. لوحة سينمائية. فنٌ عظيم. الجمال ينفجر في كلّ لقطة.

"أعشاب جافة" فيلم فلسفي وسياسي "ثقيل"، عن الالتزام واللامبالاة واليوتوبيا. نوري بيلجي جيلان سينمائيٌّ ملهم ورائق.

دلالات
المساهمون