"الأرملة السوداء": بطلة أوديبية في الحرب الباردة

20 ابريل 2022
"الأرملة السوداء" سكارليت جوهانسن: عنكبوت مسمومة (ميغيل كانديلا/Getty)
+ الخط -

تتحرّك الكاميرا على علو 80 سنتمتراً، لتتبع شابات فاتنات بسراويل جينز سوداء، تُبرز أجساداً رياضية منحوتة، في "الأرملة السوداء" (2021) للأسترالية كايت شورتلاند. جبل، سجن، مدينة عتيقة، مختبر غامض، قفز، وقطع سردي مستمر بين عوالم. فضاءات متباعدة. درع وسيف. أسلحة من زمن آخر. القتل بالخنجر أكثر تفريغاً للغضب، وأشدّ دلالة وعنفاً من القتل بالمسدس. هذه حرب أيديولوجيات وقوميات، حلّت محلّ حروب الأديان التي بَرَدت. تُذكر شخصيات من أفلامٍ أخرى. يبدو أنّه توجد علاقة عائلية رقمية بين أبطال أفلام "مارفل" وشخصياتها. مزجٌ بين الآلي والبيولوجي.

هذه التداخلات والتحوّلات تجعل الكتابة عن الفيلم صعبة. فيلم يتطلّب تناوله من خلال كتابة شذرية لتلتقط الأهمّ في هذا الكم الهائل من الصُور والمعلومات المعروضة:

جواسيس متنكّرون يؤسّسون أسراً مزيّفة، ويعملون على غسل دماغ أطفال وبرمجتهم للولاء ولخدمة قوى الشر. تفرّ عائلة الأرملة السوداء من الولايات المتحدة إلى كوبا، خدمةً للسيد درايكوف، الجندي السوفييتي الأول. دبّ كبير يعتدي على الفتاة الكبيرة. واضحةٌ أجواء الحرب الباردة في الفيلم. أم تبلّغ عن ابنتها. يذكّر هذا بتوتاليتارية رواية جورج أورويل "1984". ليس لعنف الروس حدود. شراسة منفلتة، وقتل متسلسل. تمّ التطبيع مع الدم. صار مقتل طفل مجرّد ضرر جانبي. الأرملة السوداء لا تُنجب. إنّها جزءٌ من قطيع مُدجّن. تنكشف النظرة الأوليغارشية للبنات. يعتقد الزعيم الروسي أنّ العالم يعاني فائض بنات، ويسمّيهنّ "قمامة". يعيد تدويرهنّ، ويدير بهنّ عصابة من الأرامل السود، للسيطرة على العالم. أرامل شريرات مُبرمجات، تديرهنّ الغرفة الحمراء، معقل الأوليغارشية العسكرية الروسية. بأمر واحد من الغرفة، تشتعل الأسواق، ويموت ربع سكّان العالم جوعاً.

الأرملة السوداء عنكبوت مسمومة. يتكرّر حضور الحيوانات في الفيلم. يريد المتفرّجون أنْ يعرفوا كيف يتحوّل الإنسان، حين يصير فأر تجارب. لتسريع البرنامج، استباحت الحُقن المتوالية أجساد البشر. للتأكّد من النتائج، يتمّ العمل على خنزير مُعدّل جينياً، يُربّى بحسب منهج بافلوف العصبيّ، المذلّ للبشر. التحكّم الجيني في أعصاب الناس لخلق أُسَرٍ مبرمجة تخدم العدو. تتمّ معاملة الإنسان كفأر تجارب، لمحو ذاكرته، لأنّ الذاكرة خطرة، تساعد على مقاومة البرمجة. هذا ينذر بمستقبل قاتم للجنس البشري.

هذا ما تقاتل ضده نتاشا رومانوف (سكارليت جوهانسون). بطلة شابّة فاتنة، من دون رحم، تتمرّد على مُروّضها، وتخوض معارك خارقة، بأسلحة غير مألوفة. تقفز فوق أسطح المنازل المغربية، وتخوض قتالاً يُنذر بيوم القيامة. معارك كاراتيه صينية. في الحركات والتنظيم، روح عسكرية مجيدة مضمرة. قتال يُذكّر بالساموراي، تقوده امرأة خارقة مسلّحة، لكنّها تفيض حناناً وشاعرية، لأن الوجه الأنثوي لجوهانسن يدفع المتفرّج إلى التصديق والتماهي. يقول المخرج سيدني لوميت: "يجعل الممثلُ النجمُ ما هو غَيْر قابل للتصْديق مُصدَّقاً" من المتفرّجين ("فنّ الإخراج"). فعلاً، قتال مبالغ فيه لن يصدّقه الأطفال، لكنّ مداخيل الفيلم عالمياً تؤكّد أنّ المتفرّجين صدّقوا.

في الفيلم، محاولة لتجاوز التعارض التقليدي بين ما يريده ملايين المشاهدين، وما تريده حفنة مؤلّفين مبدعين. تمّ تجاوز التعارض بتركيبٍ يقدّم فيلماً يستمدّ مصداقيته من وقائع تجري الآن، من شرّ روسيّ في أوكرانيا وأسواق العالم.

لا يقتنع الناقد التقليدي بما يشاهده في أفلام "الأبطال الخارقين (سوبرهيروز)". لكنْ، عليه أنْ يشكّ في عينيه ومنطقه، ليستطيع فهم ما لا يُفهم، وتناول الجديد. عليه أنْ ينتبه إلى أنّه بجانب غنى مشاهد العنف وصليل الأسلحة، تقدّم أفلام "مارفل" لوحات تشكيلية، تمّ الاشتغال عليها بدقّة، لتبني المعنى، وتُمتّع العين. لحظات الموت عبارة عن لوحات تشكيلية، والحوارات مشبعة بالاستعارات، بدءاً من عنوان الفيلم.

على الناقد أن يحدِّد معاييره حين يرى صفعة الـ"أوسكار"، ويتابع طائرة "درون" أوكرانية، تزن 3 كيلوغرامات، تُخرِّب وتعطّل فيلق دبابات حديدية، تزن ألف طن. عليه الشكّ في معاييره. بديهيات ومسلّمات كثيرة تحوّلت إلى كليشيهات. لذلك، تبتكر أفلام "مارفل" بديهيات جديدة، تناسب الجيل الجديد من المتفرّجين. مداخيل أفلام "مارفل" دليل ساطع، إلاّ لمن يدّعي أنّه يكفر بالاقتصاد في نظرته الفنية، ثم يشتكي من غلاء الأسعار في حياته اليومية.

هذا عالم مفتوح على احتمالات متطرّفة، على الناقد التقليدي هضمها، وهو يرى كوميدياً صار رئيساً بالصدفة. المهم أنّه لم يصر كوميدياً بالصدفة. واضحٌ أنّ الفن يخفّف المأساة.

المقاومة تتمدّد. حتّى من ربّاهم الروس يتمرّدون عليهم. تنفصل نتاشا عن عصابة الأرامل السود المسمومات، وتتمرّد عليهنّ. العامل المساعد موجود. يُخطّط "كابتن أميركا" لتدمير الغرفة الحمراء، التي تحارب "الأجندة الغربية". نتاشا، ذات الاسم الروسي والولاء الغربي، تقاتل للحصول على ترياق يحمي من التحكّم في العقل. يجري الصراع حول غاز يُحصّن المسارات العصبية، لتحرير الجنس البشري من العبودية البيولوجية. يجب على الجنس البشري أنْ يقاوم، ليصون إنسانيته.

هذا ليس سهلاً، فهناك أخبار مُضلّلة، وأبطال خارقون أصليون، وآخرون مُزيّفون، ولا بُدّ من معارك لفرز الحقيقي من المغشوش.

نتاشا بطلة أوديبية، تبحث عن أمّها في سياقٍ، يعتبر أنّ انقراض الأمومة وذكرياتها مدخل إلى القضاء على ولاء الإنسان. مُهمّة المُنتقمة إنهاء هذا المشروع الشرير، بالقضاء على الجندي السوفييتي الأول. نتاشا شابة فاتنة خارقة، تعيش أجواء الحرب الباردة، التي تتمدّد هذه الأيام. بطلة خارقة تخرج حيّة من وضعيات قاتلة. هكذا يشرح النصف الثاني من "الأرملة السوداء" للمتفرّج جُلّ ما بدا له غامضاً في النصف الأول. وهكذا يشعر المتفرّج بالرضى، لأنّه استدرك ما فاته، أو ما بدا له من دون معنى.

منح غزو أكرانيا لهذا العنف الرقمي المزيّف في الفيلم بُعداً واقعياً شرساً. بعد ما جرى في أوكرانيا، صار البشر واثقين بأنّ العالم مُقبلٌ على حروب كثيرة. الأفق مفتوح، ولا شيء محسوما.

المساهمون