حينما تفتقد الدول هيبتها، فإنها تتعرض لابتزاز من مليشيات أنشأتها بنفسها لحمايتها أو المساهمة في توطيد دعائم حكمها، وبنفس القدر يمكنها استغلال وجودها المقنن في سبيل استنزاف موارد الدولة واحتكار ثروات البلاد لمصلحتها على حساب مصلحة البلاد.
وفي ظل عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، تمارس غالبية المليشيات أنشطة متنوعة، لا سيما في النفط والحدود والتجارة والذهب، وثمة تساؤلات في مخيلة الكثيرين خاصة في البلدان المتأثرة من تلك المكونات وممارساتها السالبة، كيف تستنزف هذه المليشيات ثروات بلادها؟
ما أبرز القطاعات التي تسيطر عليها المليشيات في السودان؟ وكيف تستخدم حصيلة تلك الأموال لتمويل أنشطة الحرب الأهلية وحرمان الشعوب من الاستفادة منها، وبالتالي حرمان اقتصادات هذه الدول من هذه الثروات وزيادة معاناة المواطن من البطالة والفقر والجوع؟ وما الخطوات التي اتخذتها الدولة لاستعادة هذه الثروات من أيدي المليشيات؟
يشير خبراء اقتصاديون إلى أن هذه المليشيات تعتمد على حصيلة ما تنهبه من ثروات البلاد لدعم قواتها وتسليحها، فتصبح جسما طفيليا يعيش على مقدرات الدولة إلى جانب الاعتماد على جبايات تفرضها على سكان المنطقة التي لا تصلها هيبة الدولة وسيادتها.
ويلاحظ بعضهم أنه بوجه الخصوص في السودان مع بداية عمليات استيعاب حركات الكفاح المسلح في الجيش، قد يكون البلد خاليا من المليشيات المسلحة قريبا، فيما يؤكد البعض الآخر ان أنشطة المليشيات معوقة للتنمية ومسببة للفقر والمجاعات وعدم الاستقرار السياسيين بما له أثر في عدم الاستقرار الاقتصادي ويجعل أعداد الذين هم تحت خط الفقر متزايدة بصورة يومية.
يقول الخبير الاقتصادي، محمد النيل، إن غياب الحكم الرشيد والإدارة النزيهة للدولة يؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي وتدهور الاقتصاد، بما يقود إلى النزاعات وتفكك الدولة. ويبيّن أن من الطبيعي أن تخلق تلك الظروف مناخا يؤدي إلى قيام مثل تلك المليشيات المسلحة لفقد الدولة هيبة سلطانها وعدم قدرتها على ضبط أراضيها، موضحا أن المليشيات في مثل هذه الأحوال موجودة منذ نشأة البشرية، ومنها العصابات المنظمة وقطاع الطرق.
ويؤكد أن هذه المليشيات تعتمد على حصيلة ما تنهبه من ثروات البلاد التي تنشط فيها لدعم قواتها وتسليحها فتصبح جسما طفيليا يعيش على مقدرات الدولة ومن ضمن تمويل قواتها الاعتماد على جبايات تفرضها على سكان المنطقة التي لا تصلها هيبة الدولة وسيادتها، مثلما يحدث الآن في ولاية جنوب كردفان.
فرض "الخوّات" مقابل مزاولة الأعمال
كما يشير إلى أن هناك من يفرض إتاوة (خوّة) على السكان ليسمح لهم بممارسة حياتهم الطبيعية من الزراعة والتجارة، مبديا لـ"العربي الجديد" أسفه لهذا التفلت الذي سمح بدخول مليشيات أجنبية قد تكون معارضة لحكومات بلاد الجوار، مثل مناطق شرق السودان (الفشقة) وحدود جنوب السودان ودولة تشاد، لجهة أنها تعتبر قوات محتلة لأراض سودانية لانعدام سيادة الدولة فيها.
وأضاف أنه كلما تأخر فرض سيادة الدولة بعد تغيير ثورة ديسمبر، قويت شوكة تلك المليشيات المحلية والدخيلة، كما أن انشغال المركز بالضائقة الاقتصادية وفقر إمكانات الحكومة يؤجلان حسم تلك القوات المنفلتة التي تتحكم في مقدرات البلد من الثروات الطبيعية وتهدد أمن مواطني المناطق التي تنشط فيها وتفرض جبايات وتحد من حرية أولئك المواطنين.
اما المحلل الاقتصادي الفاتح عثمان محجوب، فيقول إن من المهم التدقيق في المصطلحات في السودان، فعلى سبيل المثال، وجدت المليشيات ضمن ما يسمى بالقوات الصديقة الجنوبية والمليشيات العربية التي تنتمي لقبائل حدودية مع دولة جنوب السودان، بيد أنه ومع بداية عمليات استيعاب الحركات المسلحة في الجيش السوداني يكون السودان تقريبا خاليا من المليشيات المسلحة، ما عدا حركتي عبدالعزيز الحلو وعبدالواحد نور، ويعتبر أن حركة الحلو الموجودة في جنوب كردفان الجهة الأكثر سيطرة على مناجم الذهب في جنوب كردفان، ما يجعله غير راغب في التوصل إلى سلام يحرمه من مناجم الذهب بحجة أنها ثروة قومية.
نقل سبائك الذهب إلى دبي
ويقلل الفاتح في حديث لـ"العربي الجديد" من صعوبة استعادة مناجم الذهب من مليشيات عبدالعزيز الحلو الذي تمكن بفعل مناجم الذهب من زيادة استحكاماته الدفاعية حول مناجم الذهب، ويتفق مع سابقه النيل بقوله إن السودان الآن لا توجد فيه مواقع بها مناجم ذهب تسيطر عليها مليشيا عدا جنوب كردفان التي تسيطر عليها حركة عبد العزيز الحلو .
ومن المليشيات التي أثرت سلبا في اقتصاد البلاد "الدعم السريع" التي أشارت تقارير عدة سابقة إلى أنها كانت تسعى إلى التربح على حساب الشعب باشتغالها في عمليات التنقيب عن الذهب عبر شركة تملكها أسرة رئيسها حميدتي وتنقل سبائك الذهب بملايين الدولارات إلى دبي.
وقال مسؤولون حاليون وسابقون ومصادر من قطاع الذهب، إنه في العام 2018، عندما كان الاقتصاد السوداني ينهار، أطلق البشير يد حميدتي في بيع الذهب "أغلى مورد طبيعي في السودان" عن طريق مجموعة الجنيد التي تملكها أسرته.
وفي السابق كان حميدتي يتحدث صراحة عن امتلاك أعمال في قطاع الذهب وتحدث عن ذلك مؤخرا في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي.سي).
وتظهر سيطرة حميدتي على قطاع الذهب الحيوي في السودان نطاق التحديات أمام إصلاح الاقتصاد الذي دمره سوء الإدارة والفساد والحروب على مدى عقود.
وبدأت حياته العملية كرجل مليشيا في ولايات دارفور "غرب السودان" حيث حمل متمردون السلاح في وجه الخرطوم في 2003. وحشد البشير عدة قوات لسحق التمرد وفي القتال الذي أعقب ذلك قتل نحو 300 ألف شخص وفر أكثر من مليونين من ديارهم.
وفي دارفور اكتسب حميدتي سمعة قائد بلا رحمة وخادم مخلص للبشير. وأطلق عليه البشير اسم حميدتي (والتي يقصد بها أنه حاميه). وبعد أن استولى حميدتي على مناجم الذهب في منطقة جبل عامر في دارفور سمح له البشير بالاحتفاظ بجائزته.
السيطرة على مناجم جبل عامر
وقال أمجد فريد السياسي والناشط المدافع عن الديمقراطية: "أصبح حميدتي الملك الجديد لجبل عامر وذهبه" وأضاف: "بالنسبة للبشير كان ولده المخلص والقوة التي تحميه".
وسيطر حميدتي وقواته بشكل كامل على مناجم جبل عامر في عام 2017.
وتشكل قوات الدعم السريع، التي يبلغ قوامها عشرات الآلاف من الجنود، قاعدة نفوذ حميدتي. فهي منتشرة في أنحاء السودان لحماية مناجم الذهب والمباني الاستراتيجية.
وبالنسبة لكثير من السودانيين فإن حميدتي ومؤسسته رمزان لماضي البلاد القمعي والتفاوت الاقتصادي.
وما يؤكد استيلاء الدعم السريع على التنقيب عن الذهب في جبل عامر بولاية شمال دارفور هو إعلان وزارة الطاقة والتعدين السودانية في العام 2020 عن استلام منجم ND15 من شركة الجنيد للأنشطة المتعددة التي يرأس مجلس إدارتها قائد ثان لقوات الدعم السريع الفريق عبد الرحيم دقلو.
وتسلم الوفد الوزاري المربع الذي تبلغ مساحته 757 كيلومترا ويحتوي على مصنعين لمعالجة مخلفات التعدين بجانب نحو 300 قلاب "كرتة".
وفي 16 يناير/كانون الثاني 2020، قالت وزارة الطاقة في بيان، إن "الشركة تنازلت عن حقها في المدة المتبقية من "التصديق" لصالح حكومة السودان، التي ستعمل للاستفادة من المربع والنظر في أي إجراءات أخرى ذات صلة بذات الشأن".
وكان وفد من هيئة الأبحاث الجيولوجية بوزارة الطاقة في إبريل/نيسان 2020 زار منطقة جبل عامر، وحصر الوفد خلال الزيارة عدد المناجم التي توجد في مربع 15 بولاية شمال دارفور، بالإضافة إلى محتويات مصنعي معالجة مخلفات التعدين التي تمتلكها شركة الجنيد.
وراجت معلومات في وسائل التواصل الاجتماعي، بأن الحكومة ستدفع للشركة 50 مليون دولار خصما من العوائد الجليلة التي يجب أن تدفعها الشركة للحكومة، مقابل تنازلها عن مربع ND15 بولاية شمال دارفور.
وفي 15 مارس/آذار 2021، أعلن السودان استئناف عمليات إنتاج الذهب من جبل عامر (ولاية شمال دارفور)، والعمل بوتيرة متسارعة خلال الفترة المقبلة، لتحقيق طموحات السودانيين.
ضرورة تنظيم النشاط الاقتصادي
الباحث الاقتصادي هيثم محمد فتحي طالب بضرورة تنظيم العملية الاقتصادية، معتبرا أن لا بد من أن تكون مقننة ويكون لها قواعد وأسس للتعامل بها أما هذه الكيانات أو المليشيات المسلحة أو الحركات، فليس لها حق في أن تمارس التجارة سواء كان في الصناعة أو الاستخراج أو الاستيراد والتصدير، وشدد بحديثه لـ"العربي الجديد" على ضرورة أن تكون هذه التجارة وفق أسس وقواعد تدخل في الاقتصاد الوطني ويكون لها منافع قومية.
ويقول إذا لم يكن لها عمل منظم أو قانوني، فسوف يكون لها أثر في الاقتصاد القومي، بما يؤثر على الصادرات السودانية وحصيلتها على الميزان التجاري، وقد يكون فيها نوع من الفوضى التجارية تؤثر مستقبلا في الاقتصاد القومي.
بدوره، يقول المستشار الاقتصادي، شاذلي عبدالله عمر، إن الحركات المسلحة جسدت فوضى النزاعات الموجودة في أطراف الدول والدول المجاورة وفي المناطق الطرفية، ولها تأثير مباشر في الاقتصادات ومستقبل التنمية الاقتصادية في أفريقيا عامة، وبالأخص في السودان.
ويرى شاذلي في حديثه لـ"العربي الجديد" أن مثل هذه النزاعات دوما تتكاثر من خلال انضمام ممثلين جدد في أطراف النزاع من الدول الداعمة، وقال إن الأنظمة أحيانا تستفيد من هذه الاضطرابات الموجودة، وبالتالي تعتبر معوقا لمعيشة الناس وتعطيل التنمية.
100 مليار دولار تكلفة النزاعات
ويقدر تكاليف النزاعات في السودان من حروب أهلية ومليشيات غير منظمة بنحو 100 مليار دولار، فيما تعاني بعض الدول التي أصبحت فاشلة كونها مسببا في عدم الاستقرار.
وأشار إلى أن هذا ما يقلق بعض الدول الأوروبية التي لديها نفوذ في تشاد وليبيا ومالي ونيجيريا، ويقول إن ما تفسده بوكو حرام من تنمية، كلها فواتير ينبغي أن تكون في الحسبان.
وبالتالي، يقول إنها معوق للتنمية ومسبب للفقر والمجاعات، مشيرا إلى أن عدم الاستقرار السياسي له أثر في عدم الاستقرار الاقتصادي، بما يجعل أعداد الذين هم تحت خط الفقر متزايدا بصورة يومية، لذلك استبعد أن تنعم مثل هذه الدول بأي نوع من الرفاهية ولا حتى الاستقرار الاقتصادي.