استمع إلى الملخص
- **مواجهة الخوف والعمل تحت القصف:** بعد شهر من العدوان، قررت الكاتبة الخروج من المنزل لأول مرة رغم اعتراضات عائلتها، واصفة مشاعرها المتضاربة بين الخوف والرغبة في مواجهة الواقع ودعم عائلتها.
- **الحياة تحت الحرب والنزوح:** تصف الكاتبة الحياة اليومية في غزة تحت الحرب، مشاهد الحزن والبؤس في وجوه الناس، وصعوبة التكيف مع الواقع الجديد، مؤكدة أن الشعب لن يعتاد أبداً على هذا المشهد المأساوي.
مرّ شهرٌ منذ تساقط أوّل أوراق الخريف، الخريف الذي حلّ علينا فصلاً وواقعاً، لقد كانت أجسادنا تتهيأ لنسماتٍ باردة، بعد فصل صيفٍ حارق، لم نكن نعرف أننا سنتلقّاها كنصل سكاكين في أرواحنا، أيّ زمان هذا الذي نعيشه؟ زمنٌ الخوف سيّده وخادمه، زمن محا حزن الأزمان السابقة، فها نحن نعرف معنى آخر للحزن، لقد رأيت حزناً في عين صديقتي يكاد يغرق البلاد كلها..
مرّ شهر وأنا ما زلت أقاوم الخروج من المنزل، لا أستطيع إدراك ما يحدث لنا، وكأنني إن شاهدت ما يحصل خارجاً فسوف أتلف ذاكرتي المليئة بأنوار المدينة التي تنسحب من جانبي، وأنا متكئة برأسي على نافذة السيارة تتلاعب النسمات الصيفية بوشاحي، وموسيقى أم كلثوم تداعب المشهد في عقلي، لقد كنت أرغب في حماية هذا المشهد والكثير الكثير من المشاهد التي كنت سأحتفظ فيها بذاكرتي حتى إن صرت عجوزاً قلبها يعيش لأنه رأى جمال الحياة وأنسها وصدّقه..
اليوم الأخير من شهر تشرين الأول/ أكتوبر، كانت المرّة الأولى التي أخرج فيها من البيت بعد بدء العدوان، أول مرّة تبدأ عيناي بالسير حزينة الدهشة من كل ما تراه، لقد خرجت يومها بعد مئة اعتراض ومئة تردد من والديّ وأخي "كيف ستذهبين للعمل تحت القصف"، وكانت إجابتي يدركونها جيداً لكن خوفهم وقلقهم شكّل مبرراً كافياً لكل أفعال التردد "سوف يدركني الموت أينما كنت، لا مخبأ منه". أنا الخائفة جداً من الموت، أعرف جيداً أنني لا بدّ أن أحمل هويّتي في جيبي كي يتعرّفوا على جثتي، وجودها في جيبي سيكون أسهل على المسعفين بأن يكتبوا على كفني "فتاة، سمراء، ذات جسد نحيل، وأحلام كبيرة".
هل نموت بدون البيوت أم تموت البيوت بدوننا؟ لقد مات زوج عمّتي، سكت قلبه متأثراً بما حل ببيته
لقد أعلمونا في المؤسسة أن فريق العمل سوف يبدأ بالعمل الميداني، وبأنني لستُ مجبرة على العمل في حال شعرت بالتهديد أو الخوف، لكني لم أشعر بأن لدي خياراً آخر، فإما أن أنتظر الموت مختبئة في بيتي، وإما أن أخرج لأواجه خوفي وأكون عوناً لبيتي في زمنٍ صارت لقمة العيش تساوي سعر رحلة سياحية إلى دولة أوربية، وربما أجد معنى لأيامي حين أساند عائلتي بكل ما أستطيع، سوف أتغلّب على خوفي، وأرقي، سوف أبحث عن قيمة للوقت الذي ينسحب من تحت أقدامنا ومن أعمارنا ونحن في انتظار موتٍ لا يجيء.
■ ■ ■
فتحتُ خزانتي أبحث بين ثيابي عن شيء يشبه أن تكون تحت الحرب، يشبه الخوف الذي سوف أمشيه، يشبه الموت الذي يمكن شمّه، تحرّكت يداي بين ثيابي تحاول أن تزيح ثياب الفتاة السعيدة المتفائلة دائمة الاحتفال، وتبحث عن ثياب الفتاة التي تشعر ببرد كل جثث الفتيات تحت الركام، وتسمع صمت اليتيمات، الأرامل، والمبتورات الجسد والروح، خرجت يومها ألبس اللون الرمادي وكأنني بيتٌ تُرك واقفاً وحده بين كل البيوت المقصوفة.
كنت أمشي مع صديقَيَّ بيسان وغسان يُمسك كلٌّ منّا يد الآخر، تارة ينادي أحدنا الآخر، وتارة أخرى، يلتفت كلٌّ منا إلى الآخر كلّ ثانية، ونتشارك فعل الدهشة لرؤية المشهد الرمادي للخريف في وجوه الناس وعلى الأرصفة، والهواء الرطب الذي يأتي زاحفاً من بين أقدام الأطفال العارية.
بدأت عيني بإدراك الوجوه الكثيرة الجديدة التي تطأ مدينتي ربما لأول مرّة في حياتها، وجوه بدت تائهة تحمل في ملامحها أسئلة كثيرة، وددتُ لو كنت دليلها في ذلك الوقت، كأن أكون الشخص الذي يحمل كل الإجابات، لكنّني أيضاً تائهة مثلهم بل أكثر، أنا التي لم أنزح مرّة حتى هذه اللحظة، ولم تتغيّر علي العناوين ولا الأرصفة.
هل سينسيني الجوع الشعور برهبة الموت الذي يلاحقنا؟ هل ستراودني أحلام جميلة في ليلة لم تهدأ فيها الزوارق؟
حين شاهدت ركاماً لأول مرة، كانت رهبة الحجارة على الأرض تدفعني إلى أن أقف احتراماً لكل هذا الأمان المذبوح، أنظر إلى غرف النوم الملقاة على الرصيف، صوت الهمسات الضاحكة التي كانت تزين سقف هذه الغرفة، ورجفة برد يتسلّل إليه دفء طفل غفا في حضن أمّه، أعدّ كاسات القهوة وفناجينها بجوار سرير شابٍّ يؤنس وحد
ة سهرته بصوت التلفاز مرتفعاً، وبشاكيرُ تحمل هوية صاحبها من رائحتها، صوت الكلام الذي يخرج صارخاً في الخلافات العائلية يبدو كموسيقى حزينة الآن، ومشهد تمايل فتاة أمام مرآتها بدلالٍ وكأنها آخر الإناث، لقد بكيت حينها بعدد الأحلام التي تناثرت مع الشظايا في الهواء، وتساءلت: هل نموت بدون البيوت أم تموت البيوت بدوننا؟ لقد مات زوج عمّتي، سكتَ قلبه متأثراً بما حل ببيته.
■ ■ ■
كنتُ أمشي بيديَّ الحرّتين لا أحمل حقيبة كبيرة ولا كيس طحين، لكنّي مشيت بتثاقل ظهر محني من ثقل المشهد، ثقيلةٌ خطوتي والطريق ثقيل، والموسيقى في رأسي يختلط معها صوت القصف فتجعل المشهد يبدو غير حقيقيّ، وكأنه مشهد محذوف من فيلم بسبب قسوته وخدشه للأمان، من دون أن تهزّني يد الواقع، توقظني من كابوس ملموس، فأصدّق بأننا نموت ونهجّر، تسلب منا بيوتنا والطرق، وأننا جائعون ولا يوجد ما نأكله، وأننا ننزح ونتعلّم معنى النزوح ونصدّق حدوثه، لقد شاهدت بكاءً بملامح طفل، وبؤساً بملامح امرأة، وعجزاً بملامح رجل، رأيت الحزن يأكل المدينة بأكملها، لقد رأيت كل هذا وأكثر.
لم تجرؤ يداي أن تفتح الكاميرا في هاتفي، أنا التي كنت أوثّق الجمال سابقاً، الفرح الحب والأصدقاء، كيف لهذا التحوّل أن يستوعبه عقلي، وعيني التي كنت أحبها وأعتبرها الجزء الجميل فيّ صارت ترصد الملابس الممزقة، والأرصفة المكتظة، والمدارس التي صارت ملاجئ لا تحمي من يلجؤون إليها من الموت.. مدارس، وصفوف، وفرشات وبطانيات، وحقائب مدرسية فيها قطع ملابس صيفية، وجرادل مياه، وحمامات جماعية، وحبال غسيل لا تنتهي، وغيمة سوداء سببها حطبٌ ونار، ومعلبات طعام، وكارة وحمار، وأقدام مغمسة بمياه المجاري، ولوحات ملصقة على أبواب المحال التجارية مكتوبٌ عليها لا يوجد بضاعة، خيام تنصب، وطابور تكية، وقطط نازحة، وموج بحر لا يجدد سوى الحزن فينا..
■ ■ ■
لقد كانت غزّة كلها أشبه ببيت عزاء، يمشي الناس مواسياً بعضهم بعضاً رغم تشابه الحزن، رغم تعاظم الثقل، تبكي سيدة على ابنها الذي استشهد، فتواسيها سيدة أخرى ابنها مفقود وتخبرها بأنها على الأقل تعرف مكانه حتى لو كان تحت الأرض، في غرفة مجاورة لهم طفل فقد أمه أمام عينيه، ولكنه يبكي لأنه حافٍ فقد حذاءه وهو هارب من الموت، ويصرخ رجلٌ بأعلى صوته ينظر إلى يديه ويبصق في وجه العالم لأنه دفن ابنه بيديه الاثنتين، ولأنه يموت في اليوم ألف مرّة.. موت موت وألف موت وما زلت أحاول أن أجعل قدمي ثابتتين ظاهرياً كي لا أسقط أمام هذا السواد.
كنت أذهب إلى العمل مشياً، فالسيارات مشغولة بفصل الناس عن بيوتهم ومدنهم، تحمل الوجوه العابسة جيئة وذهاب، لو فتشنا في ذاكرة السيارات لرأينا تاريخاً كاملاً يكتب بالبكاء والصلوات، بالمكالمات التي تتعذر، بكلمات الوداع، بجملة "اذهبوا أنتم أولاً وسألحق بكم" الكاذبة، وإن شعرت بالتعب لا بد أن أركب على كارة حمار كي يوصلني إلى نصف الطريق، أركبها لأول مرة في حياتي، وأشعر بأن حزني مكشوف جداً.
كنتُ أظن أننا نعيش شيئاً مؤقتاً سينتهي خلال أيام، حتى مرّت الأسابيع والشهور ونحن تتعمّق أقدامنا في الوحل أكثر، وحزننا صار يورّث، لقد وُلد أطفال جدد يحملون بؤس أهاليهم، تقول لي سيدة: "لو كنت أعرف أننا سنعيش أياماً كهذه، ما كنت حملت" وتقول لي صديقة: "لأول مرة أحمد الله أنني لا أنجب أطفالاً"، لقد حزن الأطفال حزناً ثقيلاً تراه في أيديهم وهم يحملون جرادل الماء، وهم نائمون على الرصيف، وهم يمدون أيديهم للناس، يطرقون الأبواب باحثين عن الطعام، تراه في بكائهم وهم تائهون عن أهاليهم في زحمة مدينة النزوح الكبيرة، وأسأل الله: "كيف يمكن حماية الأطفال من الحزن؟".
يوماً بعد يوم، ينغرس المشهد في عيني كفزاعة تطرد كل عصافير أحلامي الجميلة، وعقلي يرفض تصديق ما يحدث، مهما تجرأت يداي في توثيق الإبادة، توثيق شكل الحياة الجديد، حزن الأطفال، تراكم الخيام، هل هذا هو واقعنا الجديد؟ غياب الأصحاب، والخوف عليهم، وأعياد ميلاد من دون كعكات، ووداع مسافر لا يعرف تاريخ العودة، وانتظار أخبار البيوت، ومذاق فم نسي طعم اللذة، وهدنة كاذبة، وشتاء قاسٍ، وبرد لا يفرق بين بيت وخيمة، فهل يمكننا اعتياد المشهد؟ هل سيأتي يوم وأستمع لخبر مجزرة حدثت في مدينة مجاورة وأستمر في تناول الطعام؟ هل سينسيني الجوع الشعور برهبة الموت الذي يلاحقنا؟ هل ستراودني أحلام جميلة في ليلة لم تهدأ فيها الزوارق؟
■ ■ ■
والآن بعد مرور ثمانية أشهر على بدء حرب الإبادة، أستطيع أن أجيب عن شعبٍ كامل، لا، لن نستطيع أبداً اعتياد المشهد، الغصة في قلوبنا تزداد في كل لحظة، حتى وان شاهدتهم مشهد عروسين في خيمة، حتى وإن رأيتم ضحكة تضيء من عيون الأطفال، حتى لو سمعتم صوت غناء، إنها الروح تتخبط في انتظار موتها، تريد أن تسرق من الحياة لحظة تشعر بها بأنها على قيدها.
1 حزيران/ يونيو 2024
دير البلح
* كاتبة وفنانة من غزّة