أن تعيش في هدنة مقلقة

01 سبتمبر 2024
عمل للفنانة الفلسطينية نبيلة حلمي
+ الخط -

ما أطول ليلك يا غزّة؟

بدت الليلة السادسة عشرة من أيام الحرب هادئة جداً بشكلٍ لافتٍ، أصوات الطائرات الثقيلة المرعبة، غابت، على غير عادتها في الأيام السابقة، بدا كلّ شيء ساكناً إلى حد الريبة، حتى صرصور الليل لم يتحفنا بصوته الرتيب في هذه الليلة الغريبة.

سكون تام غلّف الساعات الأخيرة من الليلة  السادسة عشرة من الحرب التي نعيش تفاصيلها المريرة والمرعبة. على مدار الدقائق والثواني، نام الجميع، أو استناموا وعيونهم مغمضةٌ على أمل، وقلوبهم عامرة بتسبيحٍ قد ينفعهم في ليالي الموت المحيطة بهم دون أن يفهم أيٌ منهم ما الذي يحدث ولماذا يحدث وإلى متى سيظل يحدث؟

نام الجميع ولم ينم أحد وكأنّ النوم مدخل للموت المحدق من كل نافذة تحيط بهم. مرّ بعض الليل مشحونا – كما يحدث دائماً- بالخوف والتوتر والقلق من ضربة جوية مباغتة تنقضّ على الأحلام النائمة على وسادات مبعثرة على أرضية المنزل الذي تحوّل إلى ملجأ غير آمن.

غزة العجيبة الغريبة المحاطة بالموت من كل جانب ويأتيها القهر من كل فجٍ عميق، لم تزل على عهد الأولين

ليس هناك ما ينبئ بحدوث قصفٍ إسرائيلي جديد. ليس هناك سوى الصمت المريب، المخيف حقاً. إنها الساعة الواحدة إلّا ثلاث دقائق، جمعينا يضع رأسه على وسادته المصنوعة من أقمشة وملابس مهملة، فيما تجوب عقلي أفكار ليست وردية مؤكداً، هنا في هذه الأجواء المشحونة ما يقتل معنى أن تكون حياً. وجميعنا، رغم ذلك كان لديه أمل أن تنتهي هذه الحرب فجأة، بلا انتظار مرير، بلا حسابات مفرطة في معنى الخسارة والمكسب، دون ألمٍ فاقع أو حزنٍ جديد، يا ليتها تنتهي، يا ليتهم يرحمون صبرنا وصمودنا الهش. كل يوم ننتظر أن نصحو على أصوات الناس تجلجل بأنّ الحرب قد انتهت هكذا فجأة كما بدأت في غفلةٍ من مخططاتنا العقيمة لحياة مفرطة في العادية والأحلام المؤجلة.

أعرف أنه أمل بعيد، هكذا بدت مشاعرنا تنفد ببطء ورتابة فاقعة. إنه أمل على أية حال قد يُنعشٌ بعض الأوهام الصغيرة في قلوبنا المنهكة ويشحن طاقتنا الإنسانية وقدرتها على  أن تستمر وتواصل مواجهة الموت المجهول والمعلوم جدا في آنٍ معاً. وكم آمالنا – نحن الفلسطينيين-  طويلة جداً ولا تتحقق غالباً، لكننا نتمسك بها كما يتمسك صغير بذيل أمه خوفاً من الضياع. 

كلّ شيء في الحرب يمكن حدوثه ولا يمكن أيضاً. تلك هي فانتازيا الحرب، التي خبرناها ولم نألفها رغم تكرارها وتعدد رواياتها وكثرة بيانات الشجب والاستنكار من القريب والغريب.

هنا في غزّة الفقيرة اليتيمة، ما زال النوم يجافي عيون الصغار والكبار، وما زالت الأحلام تزور مناماتهم دون إكراهٍ منهم ولا رغبةٍ عارمة في تغيير العالم. في هذه الغزة العجيبة، كأنها كوكب يدور على الأفلاك فتعطيها من دمها ماءً يرقّق القلوب ويروي عطش المقهورين في هذا العالم القاسي. 

غزة العجيبة الغريبة المحاطة بالموت من كل جانب ويأتيها القهر من كل فجٍ عميق، لم تزل على عهد الأولين والآخرين ممن لم يخونوا زهرة حنونٍ صدقت محبتها في عين العاشقين.

ما أطول ليل الحرب، ما أطوّل ليلك يا غزة!

لا قهوة يمكن صنعها، لا غاز طهي، ولا رغبة عاشقة يمكن الاستناد إليها لجعل يوم بلا قتال جميلاً

أخيراً بعد تسعة وأربعين يوماً أعلنت هدنة مؤقتة. إنه اليوم الأول من أيام الهدنة، كان من المفترض أن يكون أول أمس الخميس، صحوتُ في هذا اليوم متأخرة قليلاً عما سبقه من أيام، لكنه كان أيضًا باكراً٠

الجميع نيام، حشود بشرية متنوعة محشورة في مساحة مكانية صغيرة جدا، قياسا بالعدد الذي تحتويه٠أصوات شخير وأصوات صفير تملأ فضاء المكان، فيما ثلاث أمهات شابات جلسن يرضعن صغارهن الذين صحوا جياعاً كجوعنا ليوم عادي بلا قتال، بلا موت ولا خوف٠

كلّ شيء بدا غريباً في صباح الهدنة، غريباً جداً، كأنه عادي جداً، مثل صباحات كثيرة عاشها أناس كثر في هذا العالم المترامي، الذي لا يعرف عن تفاصيل حياتنا البائسة شيئا٠ خرجتُ متلصصة إلى خارج المنزل، إلى ممره الحدائقي البسيط أحمل هاتفي النقال لعل الروح تعود إليه بعد سكون طويل، فأشتمّ من خلاله أنفاس أناس أعزاء منعتني الحرب من معرفة مصيرهم٠ السماء صافية في صباح استثنائي من شتاء الحرب٠عصافير كثيرة تزقزق حول روحي ومشاعري التي تؤلمني من كل ما يحدث وشعوري العاجز عن فعل أبسط الأشياء٠ يا له من عالم قاس.

لا قهوة يمكن صنعها، لا غاز طهي، ولا رغبة عاشقة يمكن الاستناد إليها لجعل يوم بلا قتال جميلاً.

ماذا عساي أفعل في أول يوم من هدنة مؤقتة بين موتين، بين ألمين، بين موت وحياة. ماذا يمكن أن يفعل الصغار في الهدنة٠ وماذا يفعل الكبار الذين لا  يقدرون على الحركة والمشي بحرية لا تكفي لاجترار مرارة الحياة بتفاصيلها أو اجترار الموت بجهامة حضوره الطاغي على البلاد.

تقول مذيعة النشرة الإخبارية إن الهدنة دخلت حيز التنفيذ في تمام السابعة، تقول ذلك بصوت رخيم خال من الألم، مبتهجة نوعا ما، ونحن الذين عشنا حروباً كثيرة ومريرة، لم نعد نعرف كيف نتصرف في هدنة عابرة، توقف الموت لأربعة أيام متتالية، ماذا عسانا نفعل في منحة الحياة المؤقتة، التي أكرمنا بها عدو لئيم في غياب صديق صدوق.

أين ذهبت الطائرات الهادرة، التي تخلع القلوب من الصدور، التي تدوس على أحلامنا البسيطة البائسة وتمنع النوم عن أجفان صغارنا وتبث الخوف في قلوب الأمهات على صغارهن في ملهاة الحياة وتراجيديا الحرب. أين ذهبت الدبابات التي أقلقت جدران البيوت وزجاج النوافذ كأن الريح ماجت في ثنايا سكونها غير المرغوب.

إنه صباح الهدنة وليس صباحنا. إنه صباح مرشوق بالوجع والخوف والترقب. هذا ليس صباح بيوتنا وتفاصيلنا اليومية المملة كما كنا نصفها مرّات كثيرة سابقة، ولا هو صباح انشغالنا اليومي والمقلق وراء لقمة العيش المريرة.

إنه صباح صامت، ساكن بلا حراك، بلا مشاعر واضحة المعالم٠ صباح لا يخلو من وجع البيوت الشهيدة بناسها وتفاصيلها التي كانت تعج بالحياة يوما ما٠ هذا صباح مقلق، لا يخلو من خوف قديم يتجدد من هوس الحرب التي قد تعود في لحظة ما.. في غفلة ما من انتباهة قلب محب.

الهدنة المهادنة لكل ما لا يشبهنا ولا يدل علينا، الهدنة التي تريح الحرب والمحاربين وترهقنا وترهبنا، فلا نعرف أن نأخذ هدنة من مشاعرنا الملتبسة وقلوبنا الموجوعة وقلقنا الدائم٠ هل نحن في هدنة الحرب أم دخلنا في حرب الهدنة؟ يا ليت وعينا يسقط من ذاكرتنا المثقلة بالألم والمعاناة، مر العيش في حرب طاحنة لا تعترف بإنسانيتنا. ماذا عسانا نفعل بهدنة تضحك علينا بصوت عال كأننا أطفال يمكن تلهيتهم بلعبة رديئة الصنع يمكن كسرها بسهولة؟

كم هدنة ستمر على دمنا ولا تعطينا وطنا ولا تزرع في سمائنا غيما بدل الطائرات القاتلة؟!


* شاعرة من غزة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون