تعدّدت أنواع الخطوط العربية لتصل إلى العشرات مع تطوّر إدارات الدولة وبروز استخدامات جديدة لها في التوقيعات والمعاملات الرسمية وعمليات نسخ الكتب التي استهدفت فئات متنوّعة، إلى جانب بعد جمالي فرضه التنافس المحموم بين الخطّاطين على مرّ التاريخ.
وقد هُجر العديد من أنواعها بسبب انتفاء الحاجة إليها، حتى ظهرت استعادات رمزية لبعضها في العصر الحديث على يد فنانين وظّفوا الحرف كجزء من العمل الفني، لكن ثمة محاولات تصبّ في سياق إحيائها من جديد، مثلما فعل أستاذ الفنون الإسلامية والباحث الأردني نصار منصور (1967) في كتابه "أمشاق الخط المحقّق" الذي تصدر منه طبعة جديدة عن "مركز التوثيق الملكي الأردني الهاشمي".
في عام 2005، بدأ المؤلّف دراساته العليا في أطروحة نال عنها الدكتوراه من "كلية الأمير تشارلز للفنون" في لندن عام 2007، حول واحد من الخطوط التي استعملت في كتابة نسخ ثمينة من المصحف طيلة العصر الإيلخاني في العراق وإيران، وخلال العصر المملوكي في مصر وبلاد الشام، ومعظمها نُسخ في النصف الثاني من الثالث عشر الميلادي.
واحد من الخطوط التي استعملت في كتابة نسخ ثمينة من المصحف
يستكمل نصار دراسته التي حملت عنوان "الخط المقدس، المحقّق في الخط الإسلامي" (2011) في كتابه هذا الذي جاءت مقّدماته باللغات العربية والإنكليزية والتركية والفارسية، ووضعها كلّ من الخطاط المعروف حسن جلبي، وأستاذ فن الخط الإسلامي مصطفى أوغور درمان، والأمير علي بن نايف رئيس مجلس أمناء المركز.
تشير المصادر التاريخية إلى أن إقبال الكتبة والخطاطين ازداد على هذا الخط حتى أواسط القرن الخامس عشر، لينصرف الناس عنه تدريجياً بعد ذلك، ويحلّ بدلاً عنه قلم النسخ، لأسباب يعزوها بعض الباحثين إلى أن الصفحة القرآنية الواحدة تستوعب عدداً أقل مما تحتويه الصفحة نفسها لو كتبت بأنواع أخرى من الخط دون أن تفقد الكثير من جماليتها.
بعد قرابة أربعة قرون، يعتمد صاحب كتاب "الإجازة في فن الخط العربي" (2000) في منهجه على تتبّع حروف المحقّق في المخطوطات المصحفية التي وصلت إلينا بأقلام أساتذة المحقق مثل: ابن البواب، وأحمد السهروردي، وعلي بن محمد المكتّب الأشرفي، وعبد الرحمن بن يوسف المعروف بابن الصايغ، وانتقالاً إلى ياقوت المستعصمي، ومباركشاه بن عبد الله، وغيرهم، وصولاً إلى أحمد القره حصاري (1468 – 1566) الذي قدم المحقق بكل قوة وفخامة في مصحفه المنشور، وانتهاء بكتابات تلميذه حسن جلبي، وبخاصة في مخطوطه "أدعية الأيام السبعة".
وبذلك يقف نصار عند آخر الخطاطين الذين كتبوا المحقق في التاريخ، حيث عمد إلى تنقيح ما جمعه وانتقاء أجمل حروفها وتركيباتها، ودراستها دراسة متأنية، مع ما جاء من وصف حروف المحقّق في مجموعة من المؤلّفات منها "رسالة المختطف في صناعة الخلط الصلف" لابن محمد الكاتب، و"صبح الأعشى في صناعة الإنشا" للقلقشندي، و"العندة" للهيتي، و"تحفة أولى الألباب في صناعة الخط والكتاب" لابن الصايغ، و"جامع كتابة الكتاب" للطيبي.
حلّ قلم النسخ بدلاً عنه لاستيعابه كلمات أكثر في الصفحة نفسها
اعتماداً على تلك المصادر، يتحدث المؤلّف عن أشكال حروف ما يسمّى "الخط الملكي" أيضاً، وموازينها، وأوضاعها، وبذلك تشكّلت صورة واضحة عن طبيعة المحقق وخصائص حروفه ومقاييسها، ما أهلّه لوضع هذه الأمشاق التعليمية، لافتاً إلى اعتماده في تصميم الكرّاس الأسلوبَ المتبع لدى أساتذة الخط العثمانيين، في رسم الحروف المفردة والثنائية، وكتابة المركبات وهي سطور متنوعة اختار فيها كتابة سورة الفاتحة، وآية الكرسي، والآيات الأخيرة من سورة البقرة.
كما نهج في هذا الكراس نهجاً جديداً، لم تلتفت إليه كراسات الخط التي نعرفها، بحسب المقدمة، وهو "جعل كلّ حرفين متصلين يعطيان معنى لغويا عن طريق تشكيل الحروف، فليست الحاء متصلة بالياء مجرد شكل فني فحسب، بل هي كلمة "حُبٌّ"، وليست القاف مع اللام مجرد حرفين كُتبا لمعرفة اتصالهما معا بل هما أيضا كلمة "قُلْ"، وهكذا حتى نهاية الحروف.