قبل أسبوع من إصدار البوندستاغ (البرلمان الألماني) قراراً بعنوان "حماية الحياة اليهودية في ألمانيا والحفاظ عليها وتقويتها"، متبنِّياً فيه تعريف "الرابطة الدولية لإحياء ذكرى الهولوكوست" IHRA لـ"معاداة السامية"، والذي تتمحور أغلب بنوده حول انتقاد "إسرائيل"، عُقد قبل أيام "لقاء طارئ" من تنظيم جماعة "تحالف الفنّ والثقافة" الناشطة في برلين تحت عنوان "المراقبة والرقابة والتجريم"، وذلك بعد تسريب نسخة القرار الذي جرى التصويت عليه مؤخّراً، بموافقة كلّ من "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، و"الحزب الاشتراكي الديمقراطي"، و"حزب الخضر"، و"الحزب الديمقراطي الحرّ"، و"حزب البديل من أجل ألمانيا"، ومعارضة "تحالف سارة فاجنكنيشت- العقل والعدالة"، وامتناع مجموعة اليسار عن التصويت.
القرار الذي أثار جدلاً واسعاً قبل إقراره وبعده في البوندستاغ، لا يُعتبر قانوناً واجبا العمل به، بل هو صياغة "إرشادية" تُساعد الجهات التنفيذية أثناء اتخاذ القرارات، خصوصاً تلك المتعلّقة بقوانين الإقامة واللجوء والجنسية التي جرى تضمينها في نصّ القرار. ويرى كثيرون أنَّ المستهدف الأساسي من ذلك هُم الفنّانون والأكاديميون المقيمون في ألمانيا من الذين تُحاول السلطات التضييق عليهم وإيقاف المنح والمعونات التي يتلقَّونها من مراكز ألمانية، وإيجاد فرصة لسحب إقاماتهم والعمل على طردهم من البلاد، وذلك بعد النشاط الكبير الذي شهدته برلين من قبل هذه المجموعات لمناصرة الشعب الفلسطيني.
افتُتح اللقاء، الذي أقيم في "مركز عيون الثقافي"، بقراءة الممثّلة السينمائية والمسرحية سوزان ساكسه مسوّدة القرار، وقد تخلّلت القراءة أصواتٌ كثيرة تعترض وتسخر من بعض النقاط، خصوصاً التي تعيد كلّ ما هو يهودي وتختزله بوجود "إسرائيل". بعد ذلك، عُقدت جلسة حوارية أدارتها التشكيلية زوي ميلر، بمشاركة كلّ من المحامية ياسمين حمودي، والتي تنشط ضمن "منظّمة محامي التضامن مع فلسطين"، ومارك سيغل؛ أستاذ الدراسات السينمائية في "جامعة يوهانس غوتنبرغ" في ماينز، وهو يعمل حالياً مع أكاديميّين فلسطينيّين ويهود لتشكيل رابطة الأكاديميّين اليهود والفلسطينيّين في البلدان الناطقة بالألمانية، وناتاشا صدر حقيقيان؛ وهي تشكيلية من أصول إيرانية، تنشط في مجال حقوق المهاجرين ومناهضة العنصرية والاستعمار، وتدرّس في "أكاديمية الفنون" في بريمن، ويارا نصّار؛ الأنثروبولوجية والكاتبة والناشطة والفنّانة من أصول لبنانية.
خطوة غير دستورية وعنصرية وتنتهك حرية التعبير
وبيّنت زوي ميلر، في افتتاح الاجتماع، أنّ هذا القرار صيغةٌ جديدة لعدّة مسوّدات متعلّقة بـ"معاداة السامية" كان "البوندستاغ" يحاول التوافق عليها منذ خريف العام الماضي، وكان آخرها نسخة جرى تسريبها في الصيف، ولاقت اعتراضاً كبيراً من المجتمع المدني والأوساط الأكاديمية، ما دفع إلى تأجيل البتّ فيها ومحاولة تطويرها. ويبدو أنّه جرى الاتفاق على صياغة جديدة سُرّبت بدورها قبل أيام من عرضها للتصويت عليها، ما دفع النشطاء إلى المبادرة بعقد هذا الاجتماع الطارئ واتخاذ موقف واضح.
وترى ميلر أنّ التغييرات التي أُدخلت على المسوّدة "لا يوجد بها سوى اختلافات شكلية عن القرار الذي جرى التوصّل إليه في الصيف"، ولذلك يبقى القرار "غير دستوري وعنصرياً وخطيراً واعتداءً على حرية التعبير والحرية الفنّية والحرية العلمية، ويتعارض مع القانون الدولي، وله نتائج عكسية للغرض المعلن عنه".
وتعني ميلر بهذا أنّ إعلان هذا القرار قد يؤدّي إلى عكس ما يدعو إليه؛ أي "حماية الحياة اليهودية في ألمانيا"، فالقرار، بحسب كلام البروفيسور مارك سيجل "يعزّز من شخصية اليهودي لاستخدامها ضدّ الفلسطينيّين في المقام الأوّل وضدّ القادمين من الدول العربية وشمال أفريقيا والشرق الأوسط"، وأشار هنا إلى إنّ القرار لا يهتمّ كثيراً باليهود كأقلّية يجب حفظ حقوقها وحماية مصالحها، بل يُحاول تثبيت صورة أحادية لهذه المجموعة، بحيث تُعتبر دائماً مستهدفة ومعرَّضة للخطر، وذلك من خلال "تحويل النقد السياسي المشروع لإسرائيل، وأيديولوجيتها السياسية وممارساتها، وطبيعة تأسيسها، إلى هجوم ليس فقط على دولة، بل على اليهود بما هم أفراد".
وتلفت ميلر إلى أنّ من النقاط المرعبة في نصّ القرار هو أنّه يتحدّث عن "ملء الفراغات"، الأمر الذي يعني أنّ الدولة تبحث عن أساليب تكميلية للقانون، بحيث تُكسبه "استمرارية قمعية"، وهذه الثغرات التي تنوي ملأها بإجراء تغييرات قانونية، ترتبط بشكل أساسي بقوانين الإقامة واللجوء والجنسية، "ما يعني أنّ المستهدفين بها هُم الأجانب بشكل أساسي، وهو بذلك تأليبٌ للمجموعات المهمّشة ضد بعضها البعض".
يأتي القرار بعد حراك في ألمانيا لمناصرة الشعب الفلسطيني
وترى يارا نصار في هذا السلوك من الدولة محاولة من ألمانيا "لتطهير نفسها من الهولوكوست، وذكرى الهولوكوست، من خلال إلقاء اللوم على الآخر العربي"، هذا الآخر يُرى بوصفه مصدرا لمعاداة السامية، لذا لا ترى الدولة غضاضةً في تشويه سمعته وتأليب المجتمع ضدّه، وذلك "لوجود نظرة خاصّة في ألمانيا تُجاه معاداة السامية بأنّها أسوأ عنصرية ممكنة، وهو بذلك يضع حماية مجموعة معيّنة فوق حماية مجموعة أُخرى". وتضيف نصّار أنّ الدولة لا تكتفي بإلصاق تهمة معاداة السامية بالعرب، بل تُصرّ على إعادة تعريف معاداة السامية، فلو بقيت معاداة السامية مرتبطة بالعداء لليهود بوصفهم يهودا لصعُب على الدولة اتهام منتقدي "إسرائيل" بأنّهم معادون للسامية، خصوصاً أنّ كثيراً منهم ذوو أصول يهودية. وهنا تأتي المحاولات لإعادة التعريف، و"هذا هو الانزلاق الذي نراه من كونها كراهية لمجموعة من الناس لما هُم عليه، إلى كراهية دولة بحد ذاتها"، ثمّ تسأل: "من في نظر هذا القرار هو الضحية الحقيقية لمعاداة السامية؟ إنّهم الألمان. إنّهم الألمان أصحاب عقلية التضامن مع إسرائيل".
أمّا ناتاشا صدر حقيقيان، فوصفت القرار بأنّه "عنيف، خصوصاً بعد الاستماع إليه مقروءاً بشكل علني"، ووصفت هذا العنف بأنه عنف إبستمولوجي/ إدراكي "ليس فقط لأنّه لا يرى الإبادة الجماعية بعد عام كامل، ولا يعترف بحصول إبادة جماعية، بل هو يجرّم أيضاً رؤية الإبادة الجماعية. إنّه يجرّم أولئك الذين يرون الإبادة الجماعية".
وفي نهاية اللقاء، أكّدت زوي ميلر أنّ أفضل ما يُمكن القيام به في وجه مثل هذه القرارات هو العمل على كشفها وفضحها على مستوى دولي، ودعت الصحافيّين والكتّاب لينشطوا بتسليط الضوء على مثل هذه التحوّلات داخل ألمانيا، خصوصاً أنّ وسائل الإعلام التقليدية فيها لا تقوم بواجبها، واصفةً ما يحدث بأنّه "أمر مروّع، ويستحق التغطية عالمياً، لأنّ التطوّرات التي نشهدها هنا الآن تُسقط القناع تماماً عن وجه ألمانيا كدولة ديمقراطية ليبرالية".