استمع إلى الملخص
- في دير البلح، السوق مليء بذكريات الأصدقاء الشهداء والمفقودين، مما يزيد من الحزن والألم مع استمرار الحرب.
- رغم اقتراب بلوغي الستين، كنت أخطط لحياة مليئة بالسفر والسعادة، لكن الحرب غيرت كل شيء، وما زلت متمسكاً بالأمل في مستقبل أفضل.
كيف انقلبت الدنيا رأساً على عقب، وعقباً على رأس في لحظة، بعد تاريخ 7/10/2023، كأن القيامة قد قامت وما من أحدٍ إلى الآن قد استوعب ما يحدث وما حدث أو ما سيحدث، وأصبح الموت ليس فوق رؤسنا فحسب، ولكن يحيط بنا من كل جانب، أين المفر؟!. كيف المفر والزنانة فوق رأسك تصبّ أزيزها في أُذنيك صباً. صوتها يتغلغل في كلّ كيانك يدفعك إلى الجنون مثل جهاز نحت الأسنان لدى طبيب الأسنان بصوته الحادّ القاتل.
تخيل أن تظلّ تسمعه أياماً وشهوراً متواصلة لا تنتهي مع فارق أن صوت الزنانة أعلى وأعلم، فالزنانة تستطيع تصويرك عارياً أو كاسياً، صحواً أو نائماً وأنت في الشارع أو أنت مستلقٍ على فراش غرفتك، وهي إن شاءت قتلتك هكذا من دون أن يرف لها جناح، فلديها صواريخها الخاصة.
يوم الجمعة 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، نزوحنا نحن ومئات الآلاف إلى الجنوب، لأن الشمال أصبح منطقة قتال خطرة، لذلك ذهبت أنا والعائلة الي منطقة دير البلح، لا أعلم لماذا. وقتها، وأنا أستقل السيارة، بصحبة العائلة خطَر لي تقسيم القارة الكورية إلى كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية. لماذا هناك شمال وجنوب. الشمال والجنوب حكاية لا تنتهي.. اعتقدنا أن نزوحنا سيستمر لأيام قليلة فقط، ولكن ها نحن ندخل في الشهر السابع، وما زلنا نحلم بالعودة إلى الشمال في كل يوم وساعة ولحظة، لأول مرة أدرك المعنى الحقيقي لوجع والدي حينما كان يحدثني عن البلاد، وحنينه الدائم إلى العودة. والذي دفعته النكبة خارج أتون مدينته الجميلة المجدل وغدا لاجئاً حتى مات.
البيت هو الوطن الصغير الذي يتغلغل في قلبك ووجدانك، وتظلّ تغرق في تفاصيله بهدوء وصمت
البيت ليس جدراناً وأرضاً فقط. إنه جبال من الذكريات وسهول من الحنين وبحر من ذكريات الطفولة وعنفوان الشباب. البيت هو الوطن الصغير الذي يتغلغل في قلبك ووجدانك، وتظلّ تغرق في تفاصيله بهدوء وصمت من دون أن تدري. ليس هذا بيت القصيد على أهميته ولكن في الحقيقة، أن تنجو من الموت أكثر من مرة، أن تراوغه كلاعب كرة قدم ماهر مراراً وتكراراً، وتستطيع النجاة فهذا شيء رائع وجميل وفيه كثير من الحظ. أما أن تموت من دون إنذار، هكذا على غفلة يدخل بك هدف يقطعك إلى أجزاء أو يبقيك تحت الركام تتحلل ببطء، او تتبخر مثل العديدين الذين تبخروا، ولم يجد أحباؤهم من بقاياهم شيئاً، لا شيء على الإطلاق. فقط بمجرد أن تبخروا في الوقت والزمان والتاريخ والجغرافيا والفيزياء الخطأ، فهنا حقيقة مختلفة وواقع أكثر مرارة وألم لا يحتمل.
في الحقيقة، خلال مرات عديدة، شعرتُ بالتعب من غدر هذه الدنيا، أكثر من مرّة تمنيتُ الموت، ولكن حينما تشعر أن الموت يقتحم حياتك عنوة ويهدد وجودك ليفرض عليك سلطانه، أنت والعائلة -العائلة التي أفنيت عمرك كلّه تضحي من أجلها- فهذا شيء آخر لا أحد يستطيع تحمله ولا يمكن لك أن تتقبله بسهولة.. كلا يجب أن أعيش وأتحدى نداء الموت وأظلّ حياً. قلت لنفسي: ليس لي من خيار آخر سوى الدفاع عن حياتي وحماية أسرتي حتي آخر لحظة من عمري. ولكن كيف ننجو من هذا الكم من حمم جهنم التي تلقى علينا من السماء؟ لو كان الأمر بهذه السهولة أو لو كان في استطاعة الناس أن تنجوا لما مات وأصيب مئات الآلاف من البشر.
كيف سيعود المخيم بدونكم والحزن قد استوطن في كل ركن وزاوية وزقاق في شوارع المخيم؟
كلما ذهبتُ إلى السوق في دير البلح صادفت أحد الأصدقاء من المخيم الذي أعرف كلّ ساكنيه، دوماً أُبادره السؤال كي يطمئنني عن أحوال عائلته والجيران، وعن أهل المخيم، فيبدأ فوراً بسرد أسماء الذين استشهدوا، وأولئك الذين فُقِدوا واُصيبوا.. تقريباً؛ لي ذكريات مع معظم أهالي المخيم، ولذلك فور ذكره للأسماء تبدأ صورهم تتقافز أمام عيوني مبتسمين كعادتهم، أسمع أصواتهم مرحبين بي. آهٍ. يا اصدقائي الأعزاء، غادرتم أماكنكم بسرعة. كيف سيعود المخيم بدونكم والحزن قد استوطن في كل ركن وزاوية وزقاق في شوارع المخيم. تبدأ دموعي بالانهمار رغم إرادتي.. من قال إن الدموع تجف!! كلا الدموع لا تجفّ أبداً.. العواطف تجفّ أما الدموع فلا تجف، إذا كان هناك عاطفة تحرّك الوجدان فسوف تظلّ الدموع تنهمر كحليب الأمهات. تظلّ الأم ترضع طفلها حتى لو صار عمره عشر سنين ما دامت تملك العاطفة والحب يظل ينمو بحضنها. الفرق بين حليب الأم والدموع غير أن حليب الأم يساعد على النمو ويجعل الطفل يكبر. أما الدموع فسيلانها يجعل الحزن يضمر ويتوارى، العاطفة مصدر الدمع ومنبعه، لذلك تجد بعض الناس يبكي عزيزاً العمر بأكمله لأن حزنه كبير وعاطفته لم تنته، فتظل دموعه تنزل على خديه كلما أتى شخص ما على ذكره او تذكره نتيجة موقف ما. منذ سبعة أشهر ودموعي لم تجف.
كنت أعتقد أن كل شيء يبدأ صغيراً ويكبر إلا الحزن يبدأ كبيراً ويصغر، ولكن اكتشفتُ خلال هذه الحرب ومع استمرارها لشهور، وتعاظم المآسي التي نراها، أن الحزن قاتل وكم من أم وأب وأخ مات حزناً وكمداً على من رحلوا. الحزن يكبر كما الفرح. ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعدّدت الأسباب والموت واحد.
لم أستعد أبداً للموت، كنت دوماً أستعد للحياة وخاصة أنني بعد شهور قليلة سوف أتمّ الستين، وأستريح لأول مرة في حياتي التي قضيتها ممتطياً ظهر الخيل، أحمل سيفي وأحارب أهوال الحياة، لم أسترح يوماً. كانت لدي خطط مع زوجتي أن نتوقف ما بين القاهرة والإسكندرية والأقصر وأسوان وشرم الشيخ ومدان ومعالم سياحية مختلفة في مصر. كنا قبل الحرب في كلّ ليلة نتخيّل الرحلة، وعدد الأيام التي سنمضيها في كل مدينة، وكيف سيكون سير الرحلة، قلنا إننا سوف نحمل فقط شنطة كتف صغيرة لكل منا حتي نتنقل بسهولة. وكم حذرنا أبناءنا من عدم مطالبتنا بشراء أشياء ونحن في مصر حتى لا نجد أنفسنا نتحرك لتلبية طلباتهم. دعوا هذا الوقت المستقطع من الحياة لنا، ومرة واحدة حتى نقول إننا عشنا وسرنا يومين من هذا العمر الشقي.
لستُ مستعداً مطلقاً للموت الآن، فما زال لدي الكثير من الأحلام والأوقات السعيدة التي حلمت أن أقضيها بصحبة عائلتي وأصدقائي، اذهب بعيداً أيها الموت، فأنا مصرٌّ على مواصلة درب الحياة. وكما قال محمود درويش: على هذه الأرض ما يستحق الحياة. وأنا أضيف: تحت هذه السماء من يريد النجاة بلحظة حب، ووطن حرّ، وكسرة خبز، وشربة ماء. يا شبح الموت غادر سماءنا.. ألم تشبع بعد من قطف كل تلك الأرواح البريئة؟!
هل من أحد يخبرنا كم هو ثمن حريتنا حتى ندفعه وننتهي؟ ألا يكفي كل هذا القهر والألم الممتد منذ 76 عاماً حتى الآن. أم قدرنا أن نبقي من دون شعوب الأرض نتجرع القهر مراراً وتكراراً ونحلم بصبح ليله لا ينتهي.
مخيم دير البلح
5 أيار/ مايو 2024.
*كاتب من غزة