مثل شخصيات مودلياني

17 يناير 2022
تفصيل من لوحة لـ حامد ندى
+ الخط -

على ضفة القناة، في منطقة الدفرسوار تحديدًا، كان أول موقع قتاليّ لي، وأول معركة أخوضها. وفي نفس المكان كان أول لقاء بيني وبين نصّار. وفي الدفرسوار تكون قناة السويس في أضيق حالتها، بحيث نكاد نتبين ملامح جنود العدو! وبناء على قرب ضفتي القناة من بعضهما، تكون هذه المنطقة من أخطر الأماكن وأشرسها خلال المعارك. 

جاءنا نصّار. كنت أسبقه في كتيبتنا المقاتلة. أنا عريف مقاتل حكمدار طاقم رشاش. معي العريف عبد الشافي والعريف دانيال. دانيال بعد أن تعمّقت صداقته مع نصّار، كوّنا دويتو إطلاق قفشات عليّ، لأن كلاً منهما منفردًا لا يستطيع مجابهتي.

صباح يوم رائق وجدتُ الرقيب مسعد مقبلاً بطوله الفارع ووجهه المُحْمر دومًا، آتيًا ناحيتنا، وبجانبه جندي نحيف يكاد أن يكون هزيلاً. الجندي يحمل مخلته، أي يجيء ليبقى، فالمخلة هي الصرة الجلدية الكبيرة التي تحوي كل ما يحتاج.

اقتربا مني. وقبل أن يتكلم الرقيب مسعد كانت عيناي ترصدان من يسير معه وسينضم لطاقمي. وجه قمحي رومانسي لطيف، مع اصفرار خفيف. تحيط به هالة من شجن آسر. تبينتُ في ما بعد، أن ملامحه وكأن الرسام العظيم مودلياني قد رسمه وضمه لشخصياته الحزينة. ثم، تبيّنت أن حياة نصار مترعة بالحزن مثل حياة مودلياني. 

- صباح الخير.
- صباح الخير يا شاويش مسعد.
- دا عريف نصّار. ينضم لطقمك.
- أهلاً وسهلاً.

تركنا الشاويش مسعد وعاد. جلسنا ثلاثتنا معًا، فالرابع عبد الشافي يقف خلف رشاشنا متأهبًا لأي طارئ. كان الإرهاق بادياً على نصار، لكنه لم يشكُ، ولم يقل أية كلمة عن التنقلات التي تنقّلها وأتعبته حتى أتانا. ولم يقل إنه جائع ويحتاج كوب شاي أولاً. نحن بالسليقة أعددنا الشاي لنا كلنا. 

بصفتي حكمدار الطاقم أخذته وصعدنا حاجز مترين من الرمال تخفينا عن العدو، وعلى قمتها يربض رشاشنا، عرّفته بعبد الشافي. أطلعته على مجرى القناة وخلفها الضفة الشرقية المحتلة. بيّنتُ له المساحات التي يجب أن نغطيها بطلقات رشاشنا في حال المعارك. وحدث بالفعل أننا اشتبكنا مع العدو عدّة مرات. كان نصّار قويًّا شرسًا رابط الجأش.


* من رواية تصدر قريباً بعنوان "بولاق الفرنساوي"

موقف
التحديثات الحية
المساهمون