قبل هذا التاريخ وبعده، لدينا زياراتٌ عديدة لعلماء المسلمين إلى القدس باعتبارها "أُولى القبلتَين وثالث الحرمين". ولكن زيارة جمال الدين القاسمي عام 1903 تكتسب أهمّية لمكانة صاحبها في المشرق، ولحرصه على تدوينها، مع الملاحَظات التي أوردها عن زيارته خلال السنوات الأخيرة من حُكم السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (1976 - 1909)، وهو الذي كاد أن يذهب ضحيّتَه بتهمة "الاجتهاد"، وكان من أهمّ المؤيِّدين للحركة التي أرغمت السلطان على تفعيل الحكم الدستوري في صيف 1908. وقد صدرت هذه الرحلة في عدّة طبعات، كانت آخرها التي حقّقها محمد بن ناصر العجمي ونشرتها "دار البشائر الإسلامية" في بيروت عام 2015.
اشتهر جمال الدين القاسمي (1866 - 1914)، في دمشق بعد اعتقاله وتقديمه إلى المحاكَمة بتهمة "الاجتهاد" في عام 1895، وهي القضية التي أثارت الرأي العام وأحرجت الإدارة العثمانية، وعُرفت باسم "حادثة المجتهدين". وكان القاسمي قد شارك مع مجموعة من علماء دمشق (عبد الرزاق البيطار، وأحمد الحسني الجزائري، وسليم سماره، وتوفيق الأيوبي، وسعيد الفرا، ومصطفى الحلّاق وغيرهم)، في تشكيل حلقة تجتمع بشكل دوري لقراءة ومناقشة الكتب. وقد اشتهرت هذه الحلقة آنذاك باسم "جمعية المجتهدين"، لكون أعضائها من المتنوّرين الداعين إلى الاجتهاد. ولكن القاسمي عرف كيف يدافع عن نفسه ورفاقه ويُحرج المفتي، وانتهى الأمر بإطلاق سراحه والاعتذار له، وهو ما رفع شأنه في دمشق التي تابع مجتمعُها باهتمام كبير هذه المحاكمة.
ترك قرابة مئة كتاب، من ضمنها رحلاته التي حرص على تدوينها
واشتهر القاسمي أكثر حين زار القاهرة في عام 1903 والتقى فيها بالشيخين محمد عبده ورشيد رضا، حيث أُطلق عليه لقب "علّامة الشام"، وقد ردّ رشيد رضا الزيارة له في دمشق عام 1908، وهو العام الذي جمعهما في موقفهما المشترك في نبذ الحُكم المطلق للسلطان عبد الحميد باسم الإسلام وتأييد الحكم الدستوري. وشارك، حينئذ، القاسمي في الاحتفال بإعلان الحُكم الدستوري في جمع من كبار الشخصيات في بيت الشيخ سليم الكزبري بدمشق، حيث أُلقيت الكلمة التي كتبها، وهي على قدر كبير من الأهمّية؛ حيث بيّنت منزلة القانون الأساسي أو الدستور (الذي كان تعبيراً جديداً آنذاك) في الدين، وأوضحت أنّه ليس فيه ما يخالف الشرع، بل هو، على العكس، مما أوجبه الدين وأمر به.
عُني القاسمي بالبحث والتأليف بروح العصر ومستجدّاته، وهو ما يبدو في مؤلَّفاته الني تجاوزت المئة، وحملت جديداً؛ مثل تفسير القرآن "محاسن التأويل"، و"الفتوى في الإسلام"، و"تعطير المشام في مآثر دمشق الشام"، الذي طُبع لأوّل مرّة مُؤخّراً في خمسة أجزاء، ومن ذلك أيضاً رحلاته التي حرص على تدوينها.
القدس أقرب بالقطار
كانت زيارة القدس للقادمين إلى دمشق للحج من آسيا الوسطى إلى البلقان سُنّة مستحبّة تكون عادة في الإياب بعد رحلة طويلة تستغرق شهوراً. ولكن الأوضاع بدأت تتغيّر في مطلع القرن العشرين مع البدء بشقّ سكّة حديد تنطلق من دمشق وتنتهي بمكّة، وهو ما جُوبه بعقبات كثيرة في تنفيذها حتى 1908. في غضون ذلك، كان قد أُنجز الجزء الأوّل حتى عمّان في 1903، وهو ما شجّع القاسمي على أن يُجرّب "الوابور" في هذه الرحلة.
زار "المكتبة الخالدية" و"مطبعة اللاتين" وأُعجب بهما
تُمثّل هذه الرحلة إلى عمّان - والتي سنتناولها في مناسبة أُخرى - ومنها إلى القدس، إضافةً نوعية، لأنّها تُبرز شخصية القاسمي التوّاقة إلى التجديد في عهدٍ اتّسم بالجمود والتقليد في بلاد الشام. ولذلك يلاحَظ عنه حرصه على حمل الكتب معه، واقتناء ما هو مناسب، والخوض مع العلماء الذين التقاهم في مناقشات علمية، مع الإشارة إلى واقع الحال في تلك المدن. وكان اللافت في رحلته اكتشافه للوجود الشركسي في عمّان والوجود الفلسطيني في السلَط في طريقه إلى القدس، الذي بقي على حاله كما من قرون.
كانت الرحلة من السلَط إلى القدس على الدواب كما في القرون الخالية. ولذلك نزل بعد الظُّهر في خانٍ بين أريحا والقدس، وتابع في اليوم الثاني طريقه بعدما أدّى صلاة الفجر، ليدخل القدس في ضحى يوم الثلاثاء 22 صفر الموافق للخامس من أيار/ مايو 1903 من باب الأسباط، حيث أنزله المكاري في خان بالقرب منه. وبمجرد أن وضع أمتعته في الغرفة، استعجل الذهاب إلى الحرم المقدسي، واصفاً مشاعره بتأثّر: "لا تسلْ عمّا هجم علينا من السرور المفرط، وانشراح الصدر، وبهجة النفس، وانتعاش الفؤاد، وحسبناه قطعة من الجنّة قد دخلناه حامدين شاكرين لفضله، ونحن نكفكف الدمع فينهمر".
وقد عُرض على القاسمي أن يترك الخان وينزل في "الزاوية الداودية" بالقرب من الحرم، التي هي "منزل الفضلاء القادمين لهذه البلدة ولها طعامية سلطانية"، وخصّوه هناك بـ"غرفة فخيمة"، ولكنّه رغب في أن ينزل في غرفةٍ بالحرم، فوجدوا له مطلبه داخل الحرم "جهة منبره الأيمن، جانب مقصورة الحديد". وتبدو شخصية القاسمي في ليلته الأُولى وهو يقرأ كتاب الحنبلي المعروف "الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل"، ليكتشّف أنّ المكان الذي خُصّص له كان وقفاً خصّصه السلطان صلاح الدين الأيوبي على رجل صالح.
في اليوم التالي، عرض عليه مجاور الحرم أن يُلقي درساً عامّاً، بعد أن شكا المجاور "فقْد العلماء من تلك الديار المباركة"، فاعتذر القاسمي خشية أن يصيبه العجب والغرور وهو يرى واقع الحال. وفي الواقع يلاحظ الفرق بين الأيام التي قضاها في عمّان بصحبة "فقهاء الجراكسة" التي كانت تتميّز بـ"مذاكرات علمية ولطائف أدبية واستصحاب كتب أشهى لدينا من منادمة العروس"، وبين الأيام التي قضاها في الحرم، وكانت تفتقد مثل هذه الجلسات العلمية بسبب "فقد العلماء" كما قال له المجاور.
ولكن القاسمي، بروحه الشغوفة، عوّض ذلك بالتجوّل في القدس للاطلاع على ما هو جديد. وفي هذا السياق، زار "المكتبة الخالدية" التي كانت قد تأسَّست عام 1900، فأُعجب بما رآه من مقتنياتها. ولمّا عرف القائمون على المكتبة شخصية الزائر ألحّوا عليه أن يكتب شيئاً في سجلّ الزوّار فاعتذر القاسمي. ولكن مع الإلحاح، كتب في السجلّ قصيدة من وحي اللحظة كشفت عن انجذابه للقدس وما فيها من مشاهد جاء في مطلعها:
"أيُّها الزائر بيت المقدس
يبتغيه بعد شقّ الأنفس
أحمد المولى بما أولى إذا
ما بدت أعلام نور القدس".
كما زار القاسمي، وهو الذي تنبّه مبكّراً إلى أهمّية الطباعة في نشر المعرفة بدمشق، "مطبعة اللاتين" التي تأسّست في القدس في 1846، ثمّ تجدّدت عام 1900 لتُضاهي المطابع في أوروبا، فوصف ما فيها وعبّر عن إعجابه بما شاهده.
القدس المسيحية
مع حرص القاسمي على زيارة كلّ الأماكن المقدَّسة عند المسلمين في القدس، بما في ذلك محلّ البراق الذي نزل إليه ثمّ خرج من باب المغاربة للتجوّل خارج السور، كان حريصاً أيضاً على زيارة الأماكن المقدَّسة عند المسيحيّين، بحُكم انفتاحه على التعايش الديني في دمشق. فقد تعرّف هناك إلى دمشقي صحبه أوّلاً في زيارة "مقام السيّدة مريم عليها السلام، وهو في كنيسة تُسمّى الجثمانية"، ثم صحبه إلى جبل الزيتون؛ حيث "أراني غالب مزاراته، ومنها مصعد السيّد عيسى عليه السلام، على ما يرونه، وهو صخرة فيها أثر قدم داخل قبّة"، وذهب بعد ذلك لزيارة كنيسة القيامة، "فتقدّمَنا أحد بوّابيها المسلمين، وأرانا جهاتها العلوية والسفلية، موضعاً موضعاً".
ومن الواضح أنّ القاسمي لم يَلق في القدس ما كان يتوقّعه من علم وعلماء، وهو الجانب الذي يركّز عليه في رحلاته، بينما أخذ الوضع يتغيّر بعد 1908 مع ازدهار الحرية والصحافة بعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني. ومع دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا ضدّ فرنسا وبريطانيا، أصبحَت القدس مُهمّةً في الصراع على المنطقة بعد إعلان السلطان العثماني الجهاد على "أعداء الإسلام"، فاتّخذها جمال باشا (السفّاح) مقرّاً لقيادة الجيش الرابع، وقام في 1915 بتحويل كنيسة ومدرسة القدّيسة حنّة إلى "كلية صلاح الدين الأيوبي الإسلامية"، لتكون أوّل مؤسَّسة للتعليم العالي الإسلامي في فلسطين وسط تكبير وتهليل كبار الشخصيات الإسلامية (عبد العزيز جاويش وشكيب أرسلان وعبد القادر المغربي وغيرهم). وفي هذا السياق حرص وزير الحربية أنور باشا على زيارة المسجد الأقصى مع كبار الشخصيات العسكرية والدينية عام 1916 في إطار الحشد للحملة الأخيرة على السويس في صيف 1916. ولكن هذا انتهى بالفشل وتقدُّم الجيش البريطاني ليبدأ "معركة القدس" في تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، أي بعد أسبوعَين بالضبط على إصدار وعد بلفور.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري