تكتسب رحلة القديس البريطاني ويليبالد إلى الأراضي المقدسة التي بدأت في العام 722 ميلادي أهمية خاصة؛ كونها الرحلة الوحيدة التي وصلتنا من القرن الثامن الميلادي، متوسطة بين رحلة أركولف في القرن السابع، ورحلة برنار الحكيم في القرن التاسع، حيث زار مختلف مدن بلاد الشام، من غزة إلى طرطوس إبان حكم الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك.
ولد القديس ويليبالد في العام 700 للميلاد، وسجل في دير في هامبشاير جنوبي إنكلترا في سن الخامسة، فتعلق بدراسة النصوص الدينية وأسلوب حياة الرهبان، حتى بدأ يفكر بالذهاب للحج إلى الأراضي المقدسة مع شقيقه. وفعلاً سافر إلى روما بصحبة والده وشقيقه وينيبالد، ولكن الوالد فارق الحياة فيها، فانطلق مع شقيقه وشخص آخر في رحلة استمرت سبع سنوات. وبعد عودته من الديار المقدسة ذهب للتبشير في بافاريا، فأسس مع شقيقه دير هايدنهايم ورسم كاهناً، ثم رُسّم أسقفاً لايخشتات، وخدم في بلاد فرانكونيا 40 عاماً كان يستقبل الزوار من مختلف أنحاء أوروبا ليستمعوا إلى تفاصيل رحلته إلى الأراضي المقدسة.
وقد احتفظت السجلات الكنسية بروايتين لرحلاته؛ واحدة دونتها راهبة أنغلوسكسونية تدعى هيغبورغ من دير هايدنهايم في مقاطعة بافاريا جنوبي ألمانيا، والأخرى كتبها أحد رفاق ويليبالد المقربين.
وتعد ملاحظاته حول الأماكن المقدسة في القدس ذات أهمية قصوى، وبعضها ذو قيمة أثرية كبيرة، ومنها إشاراته إلى كنيسة الجلجلة بصلبانها التذكارية الثلاثة الواقعة خارج المبنى، وحديثه عن أن الحجر أمام القبر المقدس؛ ليس سوى نسخة من الحجر الأصلي الذي دحرجه الملاك بعيدًا. ولكن الرحلة لا تخلو من إشكالات في التسلسل والتداخل والغموض، فنحن لا نعرف بالضبط أين قابلوا الخليفة الأموي في حمص أم في دمشق؟!
من روما إلى طرطوس
بعد انتهاء احتفالات عيد الفصح عام 722م؛ غادر ويليبالد ورفيقاه روما، اتجهوا شرقاً إلى جيتا، على الساحل، حيث استقلوا سفينة وأبحروا إلى ميناء نابولي في مقاطعة بينيفينيتو. وأقاموا هناك أسبوعين حتى عثروا على سفينة متجهة إلى مصر، فتوقفوا في صقلية في ميناء كاتانيا، حيث كان بركان جبل ايتنا المجاور في حالة ثوران، ورأى ويليبالد سكان كاتانيا يرفعون حجاب القديسة أغاثا، المدفونة في المدينة، باتجاه النار التي كانت تتوقف على الفور، بحسب قوله.
بعد ثلاثة أسابيع أبحر ويليباد ورفيقاه إلى ميناء سيراقوسة، ومن هناك إلى البحر الأدرياتيكي، حتى وصلوا إلى جزيرة ساموس، ومن هناك عبروا إلى مدينة أفسس الواقعة جنوب إزمير في تركيا الحالية، ثم ساروا بمحاذاة الشاطئ، وعانوا البرد والجوع في مدينة ميلتوس، حتى تمكنوا من الإبحار إلى جزيرة قبرص، الواقعة بين الإغريق والعرب، كما يقول. ثم أبحروا مرة أخرى إلى مدينة طرطوس على شاطئ البحر؛ ومن هناك ساروا مسافة تقدر بتسعة أميال للوصول إلى قلعة تُدعى عرقة (في قضاء عكار حالياً) والتقوا بأسقف يوناني (أرثوذكسي)؛ ثم ساروا مسافة اثني عشر ميلاً إلى البلدة التي تسمى حمص، حيث رأوا كنيسة كبيرة بنتها القديسة هيلانة (والدة الإمبراطور قسطنطين الكبير)، على شرف رأس يوحنا المعمدان.
السجن في حمص
في حمص انضم خمسة آخرون إلى ويليبالد فأصبح عدد الراغبين في الحج إلى القدس ثمانية أشخاص لم توضح محررة الرحلة جنسياتهم، وهو ما أثار شكوك الجنود المسلمين، فقبضوا عليهم وأودعوهم السجن لاعتقادهم بأنهم جواسيس لا يعرفون من أي بلد هم. وبعد أن عرضوهم على شيخ ثري (يبدو أنه القاضي)، سأل من أين أتوا والهدف من زيارتهم، فأخبروه عن السبب الحقيقي لرحلتهم، فقال: "كثيراً ما رأيت رجالاً يأتون من أصقاع الأرض إلينا، ولا يسعون للأذى، ولا هدف لهم سوى تنفيذ شريعتهم". ثم عُرضوا على الوالي فأمر بسجنهم، وفي أثناء وجودهم في السجن زارهم تاجر مقيم في المدينة (ربما كان يونانياً) أراد أن يساعدهم حتى يتمكنوا من أداء مهمتهم الدينية، فصار يرسل لهم الوجبات يومياً، وفي يومي الأربعاء والسبت أرسل لهم ابنه، فاصطحبهم إلى الحمام وأعادهم مرة أخرى إلى السجن. وفي يوم الأحد، اصطحبهم إلى الكنيسة متخذاً طريق السوق، حتى يتمكنوا من رؤية المحلات التجارية، واشترى لهم جميع ما أردوا على نفقته الخاصة. وكان أهل البلد ينظرون إليهم بإعجاب بسبب وسامتهم وثيابهم الجميلة.
في حضرة الخليفة
في هذا الجزء من الرحلة ثمة اضطراب كبير إذ يقفز الراوي للحديث عن قصر الملك ويقصد بذلك الخليفة الأموي صاحب لقب أمير المؤمنين، فلا نتبين إن كان لقاء الخليفة حدث في حمص أم في دمشق.
ونفهم من سياق الرحلة أن رجلاً من أصل إسباني تحدث معهم، وفهم منهم من أين أتوا ولماذا؟ وكان لهذا الإسباني شقيق يعمل خادماً في قصر ملك العرب، كما يسميه. وقد توجه كل من والي حمص والقبطان الذي أبحروا على سفينته من قبرص، والإسباني الذي تحدث إليهم في السجن، إلى ملك العرب، الذي لقبه أمير المؤمنين، (يزيد بن عبد الملك أو هشام بن عبد الملك) وعرضوا القضية أمامه، فكان رده على الوالي: "لماذا يجب أن نعاقبهم؟ لم يخطئوا بحقنا أخل سبيلهم، وأطلقهم". وقد تم إعفاؤهم من الضريبة المفروضة على السجناء الآخرين.
وقد حصلوا عن تصريح للذهاب إلى القدس، ويبدو أنهم أقاموا في دمشق لمدة أسبوع زاروا خلاله كنيسة القديسة حنانيا، وكنيسة أخرى تقع على بعد ميلين من دمشق، بنيت في المكان الذي اهتدى فيه القديس بولس، حين قال له الرب: "شاؤول، شاؤول، لماذا تضطهدني؟".
الناصرة وطبريا
من دمشق ذهب ويليبالد وصحبه إلى الناصرة في الجليل، حيث جاء الملاك جبرائيل لأول مرة إلى القديسة مريم، وقال: "السلام عليكِ يا مريم، أيّتُها المُمتَلئةُ نعمةً، الرب معك". ويخبرنا بوجود كنيسة اشتراها المسيحيون من الوثنيين مراراً وتكراراً، عندما كانوا على وشك تدميرها، ولا نعرف من هم الوثنيون الذين يتحدث عنهم، فالكنيسة هي من مشيدات القديسة هيلانة، أي في عصر انتشار المسيحية وتحولها إلى عقيدة الإمبراطورية الرومانية الرسمية، إلا إذا كان يقصد المسلمين عند حديثه عن الوثنيين.
من الناصرة توجهوا إلى مدينة قانا، حيث حول المسيح الماء إلى خمر. ويشير إلى وجود كنيسة كبيرة هناك، فيها قرب المذبح، واحد من الأواني الستّ التي أمر يسوع بملئها ماءً ليتحول إلى نبيذ، ومن قانا انطلقوا إلى جبل طابور حيث وجدوا ديراً وكنيسة على اسم موسى وإيليا. وبعد الصلاة هناك توجهوا إلى مدينة طبريا الواقعة على شاطئ بحر الجليل الذي سار عليه السيد.
وتشير محررة الرحلة إلى وجود العديد من الكنائس في مدينة طبريا وكذلك معبد لليهود، حيث مكثوا فيها عدة أيام، شاهدوا نهر الأردن يمر في وسط البحيرة، وهي ظاهرة طبيعية يعرفها أبناء المنطقة حتى اليوم، وخصوصا في موسم الربيع حيث يرى عبور النهر من وسط البحيرة. ومن هناك داروا حول البحيرة، وزاروا قرية المجدل وكفرناحوم، حيث سكن زبدي مع ابنيه يوحنا ويعقوب. ومن كفر ناحوم ذهبوا إلى بيت صيدا، مسكن بطرس وأندراوس، حيث وجدوا كنيسة في موقع منزلهم؛ باتوا فيها ليلة، وفي صباح اليوم التالي ذهبوا إلى كورازين، وموقعها الحالي قرية الكرسي في الجولان، حيث شفى يسوع الممسوسين بالشيطان، وأرسل الشيطان إلى قطيع من الخنازير، وقد تحدث عن الكنيسة المبنية هناك، والتي لا تزال آثارها باقية حتى اليوم.
في بانياس الجولان
بعد أن أدوا عباداتهم هناك، ذهبوا إلى مكان التقاء نبعي جور ودان حيث يتشكل نهر الأردن في شمالي سهل الحولة عند تل القاضي، وأمضى الحجاج ليلتهم بين النبعين في منطقة بانياس الجولان، وأعطاهم الرعاة لبن نعجة حامضاً ليشربوا. ولاحظوا أن الأغنام من نوع غير عادي، ذات جذع طويل وأرجل قصيرة، وقرون كبيرة منتصبة، ولونها بني. ولاحظوا وجود مستنقعات عميقة في المنطقة، وعندما تكون حرارة الشمس في الصيف شديدة، تذهب الخراف إلى المستنقع وتغمر نفسها في الماء ما عدا الرأس. ومن هناك توجهوا إلى مدينة قيصرية بانياس، حيث وجدوا كنيسة وعدداً كبيراً من المسيحيين.
بعد ذلك زاروا ديراً على اسم القديس يوحنا المعمدان، والتقوا فيه بحوالي عشرين راهباً، ومكثوا هناك ليلة واحدة، وفي اليوم التالي قطعوا مسافة ميل واحد في نهر الأردن حيث تعمد يسوع، وشاهدوا كنيسة مقامة على أعمدة حجرية. وقالت محررة الرحلة إنهم لا يزالون يواصلون التعميد في هذا المكان؛ الذي يقف فيه صليب خشبي وسط النهر ويمتد إليه حبل فوق نهر الأردن. وتشير إلى حضور عجزة ومرضى في عيد الغطاس يمسكون بالحبل ويغطسون في الماء، وتأتي النساء العواقر إلى هناك أيضاً طمعاً بنعمة الله. وقد اغتسل ويليبالد ورفاقه في النهر، ومكثوا في هذا المكان يوماً واحداً.
من أريحا إلى القدس
بعد ذلك زاروا موقع غلغالا ثم أريحا التي تبعد أكثر من سبعة أميال عن نهر الأردن. ومن هناك توجهوا إلى مدينة القدس، إلى المكان الذي وجد فيه الصليب المقدس، حيث بنيت كنيسة في الموقع الذي يُدعى الجلجثة. وتشير محررة الرحلة إلى أن هذا المكان كان في السابق خارج سور القدس، ولكن عندما اكتشفت هيلانة الصليب، ضمت هذه المنطقة إلى داخل سور القدس. وأشارت إلى وجود ثلاثة صلبان تقف خارج الكنيسة بالقرب من الطرف الشرقي، تذكارا لصليب يسوع والذين صلبوا معه.
وتنقل عن ويليبالد قوله إن هذه الصلبان كانت خارج الكنيسة، بالقرب من الحديقة التي وضع فيها قبر السيد. وأشارت إلى وجود صليب في أعلى نقطة من القبر، حيث بني فوقه منزل رائع. وتحدثت عن وجود باب محفور بالصخر في الطرف الشرقي يمكن للناس من خلاله الدخول إلى القبر للصلاة. ولفتت الأنظار إلى وجود اللوح الذي وضع عليه جسد يسوع في الجانب الشمالي من حجرة القبر. وذكرت وجود حجر مربع كبير أمام باب القبر، هو نسخة طبق الأصل من الحجر الأول الذي دحرجه الملاك بعيدًا عن فم القبر.
بعد ذلك مرض ويليبالد ومكث في سريره حتى الأسبوع الذي يسبق عيد الميلاد فزار كنيسة صهيون المقدسة، التي تقع في وسط القدس. وصلى فيها ثم زار رواق سليمان. وبعد ذلك وصف أماكن الزيارة الأخرى في القدس وما حولها مثل وادي يهوشافاط: الواقع شرقي مدينة القدس. وتسلق جبل الزيتون القريب من الوادي في نهايته الشرقية، حيث وجد كنيسة، ثم ذهب إلى المكان الذي ظهر فيه الملاك للرعاة، ثم إلى بيت لحم حيث ولد يسوع، على بعد ستة أميال من القدس. وقالت المحررة إن المكان كان في السابق كهفاً تحت الصخور وهو الآن غرفة مربعة مقطوعة من الصخر؛ وبنيت فوقها الكنيسة.
ومن بيت لحم سافر ويليبالد ورفاقه إلى غزة، حيث يوجد مقام للقديس متى، وفقد ويليبالد بصره هناك، وأصبح أعمى لمدة شهرين. ومن هناك ذهبوا إلى القديس زكريا النبي، وليس هو والد القديس يوحنا المعمدان. ثم توجهوا إلى مدينة حبرون الخليل حيث ترقد جثامين الآباء الثلاثة إبراهيم وإسحاق ويعقوب مع زوجاتهم. ومن هناك عاد إلى القدس حيث عاد إليه بصره، ثم زار بعدها كنيسة القديس جاورجيوس في اللد، ومنها إلى يافا، حيث كنيسة القديس بطرس الرسول حيث أحيا الأرملة طابيثا. وبعدها أبحر ويليبالد ورفاقه إلى مدينتي صور وصيدا، ومنهما إلى طرابلس على شاطئ البحر، وعبر جبل لبنان إلى دمشق. من هناك ذهب إلى قيصرية بانياس وعاد مرة أخرى إلى القدس، حيث قضى الشتاء كله.
حمص وسلمية
سافر ويليبالد ورفاقه إلى حمص مرة أخرى، ثم توجه إلى مدينة سلميّة التي قضى فيها موسم الصوم الكبير. ويبدو أن سبب زيارتهم لسلميّة أن الخليفة كان نازلاً فيها، فتقدم رفاقه طلباً لتجديد إذن السفر ولكنهم وجدوه قد غادر المكان بسبب وباء اجتاح البلاد. فعادوا مرة أخرى إلى حمص وطلبوا من الوالي أن يعطيهم جواز مرور، فزود كل شخصين بجواز مرور منفصل.
عادوا إلى دمشق في زيارة رابعة كما يقول، ومنها إلى القدس، وفي طريقهم زاروا مدينة سبسطية والجبل الذي كان السامريون يقدسونه، ومروا عبر بلاد السامريين إلى بلدة كبيرة على حدود أراضيهم البعيدة وقضوا ليلة واحدة هناك. ثم سافروا عبر سهل واسع مغطى بأشجار الزيتون، وسافر معهم إثيوبي مع جمليه، وبينما هم في طريقهم، فاجأهم أسد يزمجر ويزأر، يريد التهامهم. لكن الأثيوبي قال لهم لا تخافوا وتابعوا سيركم فساروا في طريقهم دون تردد، حتى اقتربوا من الأسد فتركهم الأسد ولم يؤذهم. ويبدو أنه كان يتحدث عن وادي عارة الذي كانت تعيش فيه الأسود حتى أواسط العصر العثماني.
صور والعودة إلى إيطاليا
بعد ذلك توجهوا إلى عكا التي يسميها مدينة بطلماوس، ومنها صعدوا جبل لبنان وعادوا إلى صور للمرة الثانية، ولدى وصولهم إلى مدينة صور، قام المواطنون باعتقالهم ووضعوهم في الأغلال، وفحصوا كل أمتعتهم لمعرفة ما إذا كانوا قد أخفوا أي أشياء مهربة. وعندما لم يجدوا شيئاً أطلقوا سراحهم.
من صور ركبوا البحر إلى القسطنطينية حيث ترقد جثث ثلاثة قديسين، أندراوس وطيماثاوس ولوقا الإنجيلي، تحت مذبح واحد، بينما يرقد جسد القديس يوحنا ذهبي الفم أمام مذبح آخر. ومكث ويليبالد هناك لمدة عامين وكانت له صومعة في الكنيسة حتى يتمكن كل يوم من الجلوس والنظر إلى المكان الذي يستريح فيه القديسون. ومن هناك ذهب إلى نيقية، حيث عقد الإمبراطور قسطنطين المجمع الشهير قبل أن يعود إلى بلاده عن طريق إيطاليا.