تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم الثامن والعشرون من آب/ أغسطس ذكرى ميلاد المؤرخ المصري حسين مؤنس (1911 – 1996).
في كتابه "باشوات وسوبر باشوات.. صورة مصر في عصرين" (1985)، يكشف حسين مؤنس الذي تحلّ اليوم الأحد ذكرى ميلاده تاريخاً طويلاً من احتكار طبقة من الساسة للنفوذ والحكم والجاه والمال منذ تأسيس دولة محمد علي باشا عام 1805 ووصولاً إلى حكم محمد أنور السادات.
ويستند المؤرخ المصري (1911 – 1996) بحسب التقديم إلى أوراق وزارة الخارجية البريطانية التي أتاحتها للعموم بعد انقضاء ثلاثين عاماً على الأحداث التي تناولتها، حيث شرع في قراءة آلاف الوثائق المحتشدة بأسرار تصحح العديد من السرديات الخاطئة حول تاريخ مصر الحديث والمعاصر.
مؤنس الذي استفاد في جميع دراساته السابقة من المكتشفات الأركيولوجية ووسّع دائرتها بامتلاكه معرفة عميقة بعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، يشير بالاعتماد على تلك الوثائق إلى أن عدلي يكن باشا الذي ترأس الوفد المصري في مفاوضاته مع البريطانيين نهاية عام 1921، لا يعرف ما يريد وأن آخر ما كان يتصوّره هو استقلال مصر بأمور نفسها، ويقرّ بأن مصر لا تزال في حاجة ماسة لرعاية بريطانيا.
صحّح العديد من السرديات الخاطئة حول تاريخ مصر الحديث والمعاصر
ويرى أن صورة العهد الملكي كانت حزينة بسبب لعبة سيئة كان يديرها الباشوات والملك والاستعمار البريطاني، وفي المقابل فإن العصر الناصري كلّه كان عصراً بلا وثائق ولا ميزانيات يمكن تصديقها ولا كتابة ولا قراءة ولا حساب، حيث الصراع بين عبد الناصر ونجيب ثم بين عبد الناصر وزملائه أدى إلى انتقال السلطان الفعلي إلى "طبقة غريبة من فئران السياسة يسيطرون بالخبث والمكر والجهل والجشع على مصائر الناس، وتحت ستار حماية النظام ارتكبوا أعمالاً عدوانية بالغة على هذا الشعب وأمواله وقيمه..".
لا يلتزم مؤنس باللغة الرصينة التي ميّزت مؤلّفاته في تاريخ الأندلس والمغرب والإسلام والفكر في الحضارة العربية، إلا أن المؤرّخ لم يستطع إزاء ما تقدّمه الوثائق موضع الدراسة من معلومات وحقائق ترصد فساد تلك الطبقة السياسية وتسلّطها إلا أن يسجل مواقفه بوضوح تجاه ذلك، وهي لا تنزع عنه حتماً أدوات المؤرخ وقدرته في الاستنتاج والاستدلال وإن استعمل لغة ملؤها الحسرة والأسف على أحوال بلاده.
يبيّن مؤنس بالشواهد إلى أن الباشوات كانوا يحصلون على اللقب في كثير من الأحيان بالرشى التي تقدّم إلى الخديوي، وأنهم كان يتولون مناصب الوزارة عدّة مرات حتى يتمكنوا من سداد ديونهم لقاء صرفهم الفاحش لبناء القصور وتسديد نفقات الحفلات والسفر والخدم التي كان تقدّر بالملايين، وكيف أن حزب الوفد تخلّى عن قاعدته الشعبية بعد دخول أعضائه عالم الباشوات منذ العشرينيات.
ويفصّل التطورات التي طرأت على لقب "باشا" الذي لم يتحصّل عليه سوى اثنين هما طاهر باشا ومحمد علي باشا عندما حكم الأخير مصر باسم السلطنة العثمانية سنة 1805، وبدأ الباشوات الذين أصحبوا بالمئات يسيطرون على الأرض باستملاكها عنوة ثم دخول السلطة التي بقيت حكراً على الباشوات الأتراك والألبان والشركس قبل دخول أول الباشوات المصريين ومشاركتهم في الحكم منذ نهاية سبعينيات القرن التاسع عشر.
وينتقل مؤنس إلى عام 1952، حين خرج الباشوات من الحكم بعد حركة الضباط الأحرار ودخل بدلاً منهم "السوبر باشوات" مع مصادرة أكثر من أربعمئة قصر تعود إلى الأسرة العلوية بكامل محتوياتها التي لم يتمّ جردها، ونُهبت لصالح مجموعة من نادي الحكم الجديد باسم "الشرعية الثورية" طوال ثمانية عشر عاماً يراكمون ثرواتهم باسم الشعب كما حدث في سياسات التأميم، واستمرّ الأمر على حاله في عصر السادات مع تبديل أسماء الباشوات بأسماء أخرى.