استمع إلى الملخص
- بعد شهر ونصف في حي الأمل، انتقلنا إلى الحي الإماراتي ثم إلى رفح تحت القصف، حيث قضينا ثلاثة أشهر في مدرسة تابعة للأونروا، مروراً بشهر رمضان والعيد.
- في مركز الإيواء، تعرفت على سهام وحنان، وعانينا من نقص الموارد الأساسية، لكن وجدت في الرسم وسيلة للهروب من الواقع القاسي.
في صبيحة السابع من أكتوبر /تشرين الأول 2023، وبينما يستعد أبنائي للذهاب إلى مدارسهم، أي في حوالى الساعة السادسة والنصف صباحاً، انطلق كمٌّ هائل من الصواريخ. ملأ الذعر قلوبنا. كان الأمر يشبه يوم القيامة. لم نعرف ما الذي كان يحدث، وبالطبع ألغي الذهاب إلى المدرسة وبقينا في انتظار أي نشرة أخبار تقول لنا ما الذي جرى تحديداً.
كنتُ أصلاً في إجازة من عملي بسبب كسر في يدي اليمنى. في حوالى الساعة التاسعة صباحاً، الأخبار تتداول تفاصيل العملية وطبيعة ما جرى.
بدأ القصف يهز الشمال كله بخاصة أبراج الكرامة وأبراج المقوسي وأبراج المخابرات التي تقع خلف منزلي. كانت الصواريخ أميركية الصنع تصدر أصواتاً تخلع القلوب قبل أن تخلع المباني، حتى أنني لم أنم مدة ستة أيام، إذ كنت أضع اصبعيّ الإبهام في أذنيّ. في الصباح، تركتُ منزلي وتوجهت إلى منزل والدي هرباً من الشظايا التي طاولت منزلي، خصوصاً أنّ بيتاً مقابل بيتنا هُدد بالقصف. خرجتُ مرتدية ثياب الصلاة. لم نكن أنا وأسرتي نحمل معنا شيئاً معتقدين أننا سنعود عند نهاية الضرب، لكن الضرب زاد وتواردت الأنباء عن ضرورة التوجه الى الجنوب، فهناك المنطقة أكثر أمناً، لكنني قررت الذهاب إلى مدرسة تابعة للأونروا والتي تحولت إلى مركز إيواء.
هناك أمضيت ليلة كاملة افترشنا فيها الأرض حيث لا فراش ولا غطاء ولا ماء ولا طعام. في الصباح وفي تمام العاشرة وجدت الأجواء متوترة في المدرسة، وتم إخطار الجميع بالتوجه للجنوب. وبالفعل خرجنا تحت القصف الشديد إلى خانيونس بسرعة جنونية، حتى أنني خفت أن تقتلنا السرعة بدل الصواريخ. ما أن وصلنا حتى لجأنا إلى بناية العائلة حيث المكان مزدحم أصلًا لنحصل على غرفة في شقة سكنية. كان هناك شح في المياه سواء للاستخدام الشخصي أو للشرب، حتى أن مياه الشرب غير صالحة وملوثة، كما أن الدقيق غير متوفر بل كنا نمضي أياماً بحثاً عن رغيف. قد ننتظر في طابور يبدأ وقوفنا فيه من بعد منتصف الليل إلى منتصف نهار اليوم التالي لنحصل على ربطة خبز واحدة. وأحياناً لا نكون محظوظين فلا نتمكن من الحصول عليها بعد طول الانتظار.
قررت أن أفك ضماد يدي بنفسي من دون استشارة طبيب، ورسمت بعدها أول لوحة صغيرة مصنعة من البلاستيك بمعاناة عبر استخدام ملعقة صغيرة، كنت قد حصلت عليها بعد شراء طبق هريسة لسدّ جوعي. كسر يدي آلمني وأصابعي كانت متيبسة وبذلت جهداً جباراً لثنيها وتحريكها.
بقينا في هذا البيت الواقع بحي الأمل حوالى شهر ونصف حتى قُصف البيت المجاور لنا تماماً، وتطايرت الشظايا من حولنا وتكسرت الشبابيك والأبواب. نعم نجونا من الموت بأعجوبة. أصبح البيت كبيت الأشباح في الحكايات، لا يصلح للسكن ولا لأي شيء. اتجهنا إلى ابن عم لنا في الحي الإماراتي. أمضينا في بيته حوالى شهرين.
أشياء كثيرة من حياتك تفتقدها بعد أن أصبحت كما مسخ مسخّر للجنون الذي لا تعرف من أين ولا كيف يأتيك
وصل الاجتياح البري إلى خانيونس وإلى منطقة الغرب فيها. لم تكن منطقتنا آمنة فخرجنا بعد العصر تحت القصف وقنص "الكواد كابتر" إلى رفح. كان الجو ماطراً، والسيارة التي تقلنا أصلاً شبه مدمرة من القصف فهي بلا زجاج. كانت الرحلة كلها معاناة. وصلنا إلى مدرسة تابعة للأونروا حيث سنمضي الليلة في أحد الصفوف، ونام الرجال في السيارات التي أوقفوها في ساحة المدرسة، إذ لا أقارب لنا في رفح. بقينا في المدرسة ثلاثة أشهر كنت أنا وياسمين وسارة في غرفة الصف وبقية الأولاد مع والدهم في خيمة على الحدود الفلسطينية - المصرية، وقد مر علينا شهر رمضان وكنا نحسبه سيكون شفيعاً لهدنة، لكن هذا لم يحصل. ثم جاء العيد تعيساً ومرت الأيام بفتور ونحن نمني أنفسنا بهدنة إلى أن أعلن عن دخول الجيش إلى رفح، حينها لم نعلم إلى أين نذهب، وتوجه الجميع إلى خانيونس المنكوبة أصلاً.
اتجهنا إلى المناطق التي حددها الاحتلال على أنها آمنة، والواقعة عند شارع صلاح الدين غربي خانيونس. أبلغنا أحد الأقارب أنّه سيترك خيمته فذهبنا إلى هناك وأمضينا في الخيمة أربعة أيام. كانت تلك الأيام الأربعة من أصعب ما عشناه من شدة الحر في النهار والبرد في الليل، ناهيك عن الحشرات والقوارض. في ذلك الوقت، رسمت لوحات صورت فيها الخيام والمواصي.
بعدها انتقلت مع عائلتي إلى بيت لعائلة الفرا، وهناك أصبح لدي نهم للرسم بشكل أكبر فكنت أهرب من واقعي، ومن الملل القاتل، إلى عالم من اللوحات التي أرى فيها ذاك الخريف القاتل الذي مرت به غزة. وكنت أمضي الوقت بين الرسم والأكل والنوم أو سماع الأخبار. بالنسبة للأكل فهو لم يتعدّ المعلبات التي تيبست بطوننا من كثرة تناولها. أما الماء فكنا نشتري الغالون بأكثر من دولار. طبعاً أنا أتحدث عن ظروف صعبة إذ لا سيولة في البنوك ولا إنترنت، وأنت بحاجة لدفع عمولة كبيرة حتى تحصل على مالك بسبب قلة السيولة.
بالعودة إلى الإيواء، أحتفظ بالعديد من الذكريات القاسية والموجعة، إذ كنا نتشارك في غرفة الصف أربع عائلات، وتستحوذ على مساحة تقترب من ثلث الفصل "البلطجية" أم طلعت، وقد تكرم الجميع بالسماح لي ولعائلتي بالمكوث في مساحة صغيرة. في الغرفة أيضاً أم الوليد وأختها وعدد من الأبناء موزعين في الغرفة، تقيم مقابلهم سيدة جزائرية مع ولديها. السيدة الجزائرية أصبحت من أعز صديقاتي.
نكاد ننسى أسماءنا ولا نعلم إلى أين سنذهب ومتى سنعود، ونحن في انتظار يومي لإعلان هدنة
في هذا الجو، عليك بالصبر والصمت... وأنت نائم لا مساحة للصمت فأصوات وقع الأقدام في خارج الغرفة لا تنتهي ذهاباً واياباً من المرحاض وإليه، والمرحاض مدعاة للاشمئزاز بسبب كثرة الاستعمال وقلة الماء.
وبالعودة الى أم طلعت، فقد كنت أشك أنها رجل على هيئة امرأة، بنية جسدها الخرسانية مع ملامحها الحادة تدعوك للخوف. أخبرتني ذات يوم أنها صرعت رجلين بعد عراك معهما. كنت أقابل هيجانها واستفزازاتها بالصمت، حتى قالت لي إنها بدأت تشعر بالخجل من أدبي في التعامل معها بعد أن استنفدت كل طرق الاستفزاز. لا أدري فقد ينزل الله علينا السكينة في هذه الظروف العصيبة. كنت أضحك حين أسمع كلماتها السوقية.
ما إن علمت النساء في غرفة الصف وفي الغرف المجاورة حقيقة أنني مسؤولة في التعليم حتى تهافت الجميع يود التعرف إليّ وتكوين علاقة معي. أخذت كل سيدة تسرد لي قصة حياتها وصعوبة ظروفها، وكنت أتصنع الإنصات فيما عقلي شارد في مكان آخر. كانت الحياة أصعب من أن أتخيل أنني سأعيشها. الزكام والتهابات الصدر التي لا تفارقني من شدة البرد الذي يحيط بنا، ناهيك عن تحمل البرد القارس وقسوة الطقس. فلما كان الخروج من الغرفة أمراً لا مفر منه كان علي أن أخرج والسماء تمطر بشكل غزيز والرياح تضرب من كل جهة. والخروج من غرفة الصف في رحلة الذهاب إلى الخارج أنت مجبر عليها تحت المطر والرياح الشديدة. تشتهي الجلوس الوثير على سريرك... تشتهي أن تتصفح المواقع على موبايلك، لحظات الهدوء، ساعات الجلوس مع لوحاتك، القراءة، مشاهدة التلفزيون، مراقبة الطريق من الشرفة بصحبة كوب من الكابتشينو وقطعة شوكولاته، وتشتاق وتشتاق وتشتاق... أشياء كثيرة من حياتك تفتقدها بعد أن أصبحت كما مسخ مسخّر للجنون الذي لا تعرف من أين ولا كيف يأتيك.
في مركز الإيواء، تعرفت إلى سهام، وهي شابة مثابرة تحاول الخروج من حياة الريف والبساطة، تتمنى أن تكمل تعليمها الجامعي. تعرفت إليها وجلست معها في غرفتها، حيث كانت تصنع الخبز مستعملة ألواح المقاعد المدرسية في ترتيب الأرغفة. في إحدى المرات، طلبت مني مرافقتها إلى الفرن الطيني حيث اجتماع النساء للـ"خبيز". أحاول أن أندمج معهن فلا أبدو غريبة، لكن غالباً ما أُكشف وأُستجوب، مع شك دائم أنني لست من الجنوب، وما إن يعلمن أنني مسؤولة في التعليم حتى تختلف المعاملة أكثر. أثناء تعاملي مع سهام وجدتها تتحدث لغة غريبة لم أفهمها إذ تضيف حرف القاف إلى الكلمة من بعد الحرف الأول وقبل الأخير مثل عزة تصبح "عقزقة"، وهذه اللغة تسمى العصفورية وكانت متداولة بين السكان حتى لا يفهم العدو ما يتحدثون به.
عند الغروب، وددت أن أرسم لأخرج من جو الركود الذي أصابني فلم أستطع لا أن أرسم ولا أن أطير كعادتي، فثمة أطفال في الجوار مزعجون وأصواتهم عالية لا يكفون عن الصراخ وعن إطلاق السباب والكلمات النابية، وأنا كنت أختنق في غرفة تضم سبعة عشر طفلاً وامرأة. في بداية الحرب، كانت تنتابني نوبات من القلق، فأبقى ثلاث ساعات متيقظة، أما في مركز الإيواء فلا أعلم كيف أصبح النوم يغمرني بشكل كبير حتى أني أستيقظ بعد الشروق بساعات.
في الخامس والعشرين من شباط/ فبراير، زرت عمليات الوكالة في العيادة اليابانية فوجدت هناك حماماً مزوداً بماء ساخن للاستحمام، فاستخدمته بعد انقطاع لأكثر من شهر عن الماء، وهناك توفر الإنترنت ففتحت بريدي لأجد رسالة تخبرني بأنّ عملاً لي يشارك بمعرض جماعي باسم غزة.
لكي تتعايش مع أجواء مركز الإيواء يجب أن "تستوحش" فتحارب من أجل البقاء، ولا تداس من قبل أم طلعت التي ليست غير منشار، تستنزفك مادياً، وتسيطر على كل الموارد من أجل بيعها لك بأعلى سعر، ولكي تتقي شرها يجب أن تصمد. لذلك اضطررت أن أصبح شرسة أمامها، حتى أنني قررت التصدي لها، وإن وصل الأمر للعراك بالأيدي.
أكبر معاناة نواجهها هي المراحيض والتي هي كومة من الفيروسات والجراثيم المجانية، وطبعاً نحاول عدم الذهاب الى هناك، لكن عند الاضطرار عليك انتظار طابور طويل وما إن تدخل المرحاض حتى تتهافت الأيادي للضرب على الباب لاستعجالك.
حنان السيدة الجزائرية الوحيدة المثقفة وعلى مستوى علمي راقٍ، كنت أنتظر مجيئها يومياً عند التاسعة مساء لكي نتسامر وتطلعني على آخر الأخبار، فلا إنترنت ولا راديو لديّ. وعند الساعة الثانية عشرة ننام، في انتظار صباح جديد وأمل في هدنة.
يوما الأحد والأربعاء موعد استلام "الكابونة" إذ نصطف طابوراً طويلاً من أجل الحصول على بعض المعلبات التي أصبحت روتيناً في جدول طعامنا. لا مكان لغسل ملابسك وإن غسلتها وتركتها لتجف تُسرق. تقترب رويداً رويداً من الجنون... فقط ما يهدئ من روعك ويخفف توترك أذكار الصباح والمساء لعلّ الله يظلك بظله الوفير. تستعجب من جرأة هذا الجيل من الفتيات فهناك من تتسكع على الأدراج للقاء حبيب، وهناك من تحدثك بقلة أدب، والمستفز أنّهن يدّعين النعومة في مظهرهن الخارجي فيما هن من الداخل شرسات.
خلال سيري ذهاباً وإياباً من الخيمة وإليها كنت أمر بأناس يحملون موتاهم على أكتافهم في مشهد اعتيادي يومي، وآخرون ينهبون الكابونات من الشاحنات المارة عبر الحدود، فيما أطفال يركضون على التلال الرملية. كلٌّ له عالمه الخاص. نكاد ننسى أسماءنا ولا نعلم إلى أين سنذهب ومتى سنعود، ونحن في انتظار يومي لإعلان هدنة أو عودة للشمال حيث بيوتنا مجهولة المصير.
اليوم الجمعة، نسمع صوت الأذان ونُحرَم الصلاة، فلم نعد نعلم إن كنا طاهرين أم لا. بكيت لاشتياقي للوقوف بين يدي الله ولم أستطع. أشتمّ رائحة الدجاج المطبوخ ولا أصل إليه، فلا بد من انتظار طابور طويل للحصول على دجاجتين ثم تعود خاوي اليدين لتأكل بطاطا مسلوقة.
* فنانة تشكيلية من غزّة