لا رغبة لي في رؤية هديل مجدّدًا.
سأغيّر حتى اسمها في ذاكرتي، وفي حكايتي هذه إذن، وبقدر ما يطاوعني قلبي. سأجعل اسمها أديل، يُكتَب Adèle، ليست الياء مكسورة بشدّة فيه، يُلفظ ما بين أديييل وأدايل، أُزيل الهاءَ أو أجعلها ألِفًا، كما يفعل الفرنسيون. أنا بذلك استبدلتُ اسمها باسم آخر تمامًا، غيّرتُ الاسم كلّه لا حرفًا واحدًا وحسب. أتخّيلُ لفظَ اسمها كفم امرأة تتحضّر للابتسام مظهرةً طرف لسانها بين أسنانها وهي تلفظه. لا أتخيّله بل أتذكّره كذلك. لفظتْه لي أوّل مرّة، وتحضّرت للضحك وفعلت، حين لفظتُه بالفلسطينية بعدها، أديييل. تحضّرت وضحكت بشفتَين ذابت عليهما حمرةُ النبيذ.
ماذا أيضًا؟ سنتّفق على شيء. لحظة، سيكون اتّفاقنا هذا كذكرياتي مع هديل، فكما أنّها لا تملك أن تشارك أو تغيّر في ذكرياتي هذه، أو في هديل المكتوبة، فلا يملك غيرُها إلّا قبول الاتّفاق كما أسرده هنا، بل وتقبّل ذكرياتي كحقيقة. أمّا الاتّفاق فهو ألّا أشعر بأنّي مضطرّ لتبرير كلّ ما أذكُره عنها. من الآن سيكون الخيال هو الواقع، لا نسخة محسّنة منه. والوقائع كما حصلت، ستكون نسخةً مملّة من خيالي. ستكون روايتي لحكايتنا هي الحكاية، وسيكون هنالك سبب كافٍ لقبول الاتّفاق، هو أنّي ما زلت أحبّها، ما زلت أحبّ هديل. وغير صحيح أن لا رغبة لي في رؤيتها مجدّدًا.
لن يكون لديّ الكثير من الوقت أمنحه للفصل الأول هذا، فبعد ساعتَين سيبدأ عرض فيلم لفيديريكو فلّيني في السينماتيك، وكي أصل إلى هناك سأعود إلى محطّة "بلاس ديتالي" وآخذ الخطّ رقم 6 وأنزل في محطّة "بيرسي". لا خيارات كثيرة لي كي أتجنّب "بلاس ديتالي"، أو للحقيقة، لا رغبة لي في تجنّبها، هي المحطّة الأقرب إلى بيتها، التي نزلنا فيها معًا مرّات، بعدد الحبّ الذي مارسناه. هنالك احتمال ما، لا أعرف مدى واقعية حدوثه، بأن ألتقي بها بعد قليل، أنا ذاهب إلى السينماتيك وهي عائدة إلى بيتها، أو خارجة منه، لنقل عائدة، فقد نتقابل وقتها، نتبادل كلمتَين أو ثلاثًا، عبارتَين أو ثلاثًا، نحنُّ ونشتاق فيكون من بين ما تقوله "أتحبّ أن تشرب كأسًا، ونتحدّث قليلًا في ما حصل؟ تعال".
قليل من الوقت بقي لي كي أقول إنّي الآن في مقهى قريب من بيتها، سأنتبه لاسمه حين أخرج. لا يهمّ. آخر ذكرياتي معها كانت قبل ساعتَين، حين قامت عن المقعد ونظرت إلى الخلف لترى إن كانت تركت ما يتعلّق بها قبل نزولها، إن كانت تركت أيّ متعلِّقات لم أكن من بينها.
نزلتْ من المترو، بقيتُ جالسًا مكاني، أعدتُ عينَيَّ من عند الباب إلى محجرَيهما، ككاميرا تسير في مشهد منسحب، من الخارج إلى الباب إلى المقعد أمامي، ثانيةً، ككاميرا بدأت انسحاباتها بزوم عدستها قبل أن تكمل هي بتراجعها، وينطبق الجفنان. نزلتُ في المحطّة التالية. ذهبتُ إلى الرصيف المقابل، صعدتُ وعدتُ إلى "بلاس ديتالي". نزلتُ واتّجهت إلى مخرج آخر، غير ذلك المؤدّي إلى بيتها، مشيتُ لدقائق، وجدت مقهى لم أجلس فيه من قبل، لم نجلس فيه معًا من قبل.
جلستُ وبدأتُ بكتابة هذه الذكريات وأكثرها موثوقية هي أقربها، هي نزولها من المترو قبل ساعات. تذكّرتُ اسم المقهى، لكنّي لن أكتبه، فلا معنى لذلك. كلّ ما يعنيه لي المقهى أنّه مجاور لبيت هديل، وأنّنا لم نجلس فيه مرّةً، وللسببَين لا أريد تسميته هنا.
أنهي الفصل الآن. بعد قليل سأكون في السينماتيك، أشاهد فيلمًا، وأعود إلى بيتي. تخطر لي تسجيلاتي مع جدّي أبو محمود، يحكي فيها عن المعارك واحتلال ترشيحا والجليل، وعن المخيّم. أستمع إليها، أو أكمل الاستماع. أسهر مع صوت جدّي يحكي عن النكبة، ذكريات أبو محمود هذه، هي الحكاية الرسمية للنكبة، وما دونها تنويع وتفصيل. ابتعاد جدّي عن ترشيحا هو النكبة.
أسمعها مرارًا وأتذكّر جيّدًا شيئًا واحدًا، أنّي قلتُ له مرّة: "شي يوم راح أكتُبها، جِدّو".
ما أفعله الآن، هنا، ليس كتابة حكاية جدّي، لا أفكّر في ذلك، ليس نقل التسجيلات الصوتية إلى كلمات مكتوبة. ولم أسمعها أمس لغاية كتابتها، وليست الإشارة إليها، في نهاية فصلٍ أوّل، تمهيدًا لحضورها لاحقًا، وكلّ ذلك لا ينفي أن تحضر، دون علاقة لهذه بتلك، بشكل أو بآخر، في ما أتيت أفعله هنا. لنترك للأمور تلقائيتها.
قبل أسبوع أو أقلّ، ذكرتُ لهديل شيئًا عن تسجيلات أجريتها مع جدّي، ما تجاوز خمس ساعات من الحكي والحكي والحكي. سمعنا يومها ساعة أو أكثر، معًا، ثمّ لم نعد إليها، وتركتُ صفحة التسجيلات مفتوحة في لابتوبي. أمس ليلًا فقط عدتُ أسمعها، ولا علاقة بين ما أردتُ، وبدأت، كتابته عن هديل وعنّي، وبين تسجيلات أبو محمود. هذه هنا حكاية الحُلوة التي قامت عن مقعد المترو ولم أكن من بين ما التفتت إليه.
* كاتب فلسطيني، والنص مقطع من رواية "عين الديك" التي تصدر هذه الأيام عن "نوفل- هاشيت أنطوان"