"الوجه الآخر للظل"، رواية رشيد الضعيف الصادرة حديثاً عن دار "الساقي" اللبنانية، هي محاولة ثانية في وجهةٍ تحوَّلَ إليها الروائي، وخالف فيها أسلوبه ونمطه الروائي، بل ونظريته في الرواية. إننا مجدّداً أمام رواية عجائبية، تحيل أيضاً، من ناحية ما، إلى "أليس في بلاد العجائب".
إننا هكذا أمام عمل أدبي، أمام رواية هي لعبة تخييل وفانتازيا خالصة. أي أننا أمام نصّ قوامُه الأدب، وغرضه الأدب، ومَن يعرف رشيد الروائي يفهم أنه اختطّ لنفسه، هذه المرّة، مساراً معاكساً. "الوجه الآخر للظل" غيرُ عنوان الرواية التي سبقته: "الأميرة والخاتم"؛ فهذا العنوان الأخير يختصر الرواية، في ما أن "الوجه الآخر للظل" ليس أكثر من عبارة في الرواية، إذ ليس للظل حضور عضوي فيها، وليس، هكذا، من عناصرها ومقوماتها.
رواية "الوجه الآخر للظل" لا تتميّز في شيء، في سردها وتخييلها، عن رواية "الأميرة والخاتم". إلّا أن من الممكن أن يتراءى لقارئ ما أن الرواية الثانية تذهب بعيداً في ذلك، أو تخلق أكثر في الفضاء نفسه. بل إن رشيد الضعيف، هذه المرة، لا يمسك نفسه عن أن يلعب في كلّ ثانية من الرواية، لا يمسك نفسه عن أن يخترع في كلّ عبارة، وفي كلّ تفصيل. نحن هنا أمام خيال متوقّد، بل نحن أمام لغة سحرية، وأمام "سحر" يطغى على الرواية كلها، ويجعل منها ورشة سحرية بالكامل، بل يجعل منها، على طولها، معملاً عجائبياً.
ذلك بالطبع جديدٌ على رواية الضعيف، بل هو مضادٌّ لأصلها ومنطوقها الأول. ليس هذا جديداً فحسب، بل هو مفاجئ جداً، إذ لم يكن في حسبان أحد أن الروائي يملك مثل هذه الطاقة، أنه قادر على تلك المخيّلة وأن له هذا الاستعداد. لكنّ هذا لا يعيدنا حتى إلى الضعيف الشاعر، فالضعيف الشاعر لم يكن لديه خيال متوقّد، بل كان، حتى في شعره، أقرب الى نثر عادي، أقرب إلى سرده في ما بعد. لذا لا نستطيع أن لا نتعجّب من هذه الطاقة التي أسفرت عنها روايتاه الأخيرتان، من أن نجد فيها قدرة مفاجئة على الصناعة وتملُّكاً لحرفتها. ما يباشره الضعيف في روايتيه الأخيرتين هو، بدرجة أولى، مَلَكة بناء النموذج والنمط، مَلَكة لعب حرّ ومباغت، وإمكان واسع للّعب ضمنَه والبناء عليه، وممارسته باستطاعة ومقدرة. أي أن ما نجده في روايتيه هو صنعة كاملة، وقدرة على النمذجة والتنميط والأسلبة.
لا نستطيع أن لا نتعجّب من الطاقة التخييلية في روايته
ما نجده هنا هو هذه الأسلبة الواسعة التي لا تعوز المؤلّف، في أي من وقفاته وانتقالاته. الرواية الثانية، مثلها مثل الرواية الأولى، تبدأ بمُلوك، كما هي العادة في روايات الأطفال والفتيان. إنه مدخل شبه ملازم لهذا النمط من الأعمال الأدبية. لكنّنا، هذه المرّة، أي في رواية "الوجه الآخر للظل"، نشعر أن التخييل هنا أكثر خفّة وسرعة وامتداداً. نشعر منذ أن نقرأ عن حلم الملك الذي أوّله له المفسرون، بأنه يعني أن الملكة، التي ستكون زوجته، ستخونه.
نشعر بأن الخيال هنا يعمل بسرعة، إذ سنجد الملك وقد تزوّج، والملكة وقد هجرت القصر. بهذه السرعة يستمرّ التخييل، بحيث إن كلّ ثانية وكلّ عبارة تحمل جديداً، بل نشعر بأننا في عالم عجائبي بالكامل، عالم كلّ لحظة فيه تنقلب إلى عجيبة، وكلّ تفصيل فيه يسفر عن عجيبة. عالم زمنه وأشياؤه وكل ما فيه عجائبي، أو مضمرٌ لعجيبة، أو موشكٌ عليها: الأشجار والمطر والماء والسماء.
كلّ ذلك يحبل بالعجائب ويرسلها. لنقلْ إن العجائبية فيه تتواصل بقدر هائل من الخفّة، وتتلاحق بحيث تكاد تتحوّل ركاماً. وتكاد تخطف الأنفاس. تكاد في تلاحقها وتتاليها ووقوع بعضها على بعض، أن تصرف انتباهنا، وأن تصيبنا بما يشبه الدوار. يكاد الحدث في سرعته وخفّته وتتاليه أن يبدو أقلّ قدرة على استلفاتنا، وأقلّ قدرة على إشغالنا.
من هنا تبدو القراءة نفسها أكثر برّانيةً وأقلّ وزناً. الخفّة التي تتلاحق فيها الأحداث تُعْدي القراءة، وتجعلها أقلّ تركيزاً وكثافة. اللعب العجائبي يبدو، هكذا، أكثر هوائية. يبدو دامغاً أقلّ، وجذاباً أقلّ، وحقيقياً أقلّ. المتعة نفسها لا تقنعنا كثيراً، الخفّة والحرّية لا تجعلان لنا أرضاً ومكاناً ثابتاً لنبصرهما من قريب ونتفاعل معهما.
* شاعر وروائي من لبنان