هل تطيح "العملات الرقمية" هيبة الدولار الأميركي؟
" الدولار أيامه معدودة "، "لن يصمد الدولار أمام بيتكوين"، "سينهار الدولار قريبا والعالم أجمع سيتعامل بالعملات الرقمية"... تحليلات بالجملة تطاول الورقة الخضراء ومقارنتها بالعملات الرقمية خاصة "بيتكوين"، فالدولار على ما يبدو قد أزعج الكثير من المستثمرين وضاقوا ذرعا به، لا سيما أنه الملك والمتربع على عرش العملات العالمية منذ عقود، فطاولته إشاعات الشامتين ولهث الإعلام المتشدق والباحث عن الفضائح خلفه علهم يحصلون على تأكيد بأن الدولار تراجع وصار بلا قيمة.. فيشفي بذلك غليل كل الحاقدين الذين أقلق الدولار منامهم.
كوين، اثيريوم، بيتكوين، ريبيل.. وغيرها من العملات الرقمية أصبحت اليوم تتصدر الأحاديث والشاشات خاصة مع ارتفاع أسعارها وإقبال الناس، لا سيما الشباب على شرائها، ومع الكارثة الاقتصادية التي أحدثها فيروس كورونا والتلاعب بالعملات وهروب المستثمرين وارتباك المصارف زادت نسبة الشراء والتعامل معها، خاصة مع فرض سياسة الحجر الصحي، كما ساهمت بعض الشركات العالمية بتزايد الطلب على هذه العملات مع السماح للعملاء بإمكانية الدفع بالعملات الرقمية، ومن أبرز هذه الشركات أبل، لامبورغيني، مايكروسوفت، باي بال، تسلا، اكسبيديا وغيرها..
ولمن لا يعرف العملات الرقمية فهي عملات افتراضية يتم تداولها إلكترونيا فقط. بيتكوين تبقى الأشهر، لكنها ليست الوحيدة.
هذه العملات تقريبا أسست ووجدت لهدف واضح ألا وهو استخدامها في الدفع الإلكتروني على الإنترنت والمعاملات التجارية، وكذلك لنقل الأموال وتحويلها بسرعة من أي بلد لآخر دون حدود ودون معيقات..
مهما تراجع دور أميركا السياسي وجاءها رئيس مثير للشغب، خسرت صفقة ،حربا، أو مباراة.. ناوشتها إيران أو حتى روسيا أو الصين، لا أحد يقدر على المساس بها طالما أن الدولار هو سيد العالم دون منازع
ومع هذه العملات أصبحت عملية تحويل مليارات الدولارات سهلة للغاية، وتتم في دقائق مع خصوصية عالية حيث لا يتم الكشف عن أطراف الصفقة، وهذا غير ممكن في الواقع حيث البنوك المركزية عادة ما تضع حدودا للسيولة المالية التي ستخرج من البلاد، وتعمل على الرفع من السيولة الواردة إليها.
جاءت العملات المشفرة ليس فقط لتحويل الأموال بسرعة دون الاعتراف بالجغرافية وفوارق التوقيت والعملات الوطنية وتركيبة الاقتصاد والحدود السيادية، لكنها أيضا جاءت لتستخدم في شراء السلع والمنتجات والبيع وتلقي العائدات والأرباح على أشكال عملات رقمية قابلة لصرفها إلى الدولار والعملات النقدية.
لكن بعد الطفرة الحاصلة في واقع العملات الرقمية وارتفاع أسعارها والإثراء السريع الذي حققه العديد من متداوليها، بدأت الشكوك تدور حول إمكانية تراجع الدولار عالميا وإحلال عملة بيتكوين مكانه، خاصة أن العملات الرقمية لا تخضع لقوانين ولا قواعد ثابتة..
ولكن على الرغم من المكاسب القياسية التي حققتها العملات الرقمية، لكنها في الوقت نفسه، عالية المخاطر. وتتقلب قيمتها السوقية كما هي الحال مع أي أصول أخرى، وعلاوة على ذلك، فهي غير منظمة جزئياً، وهناك دائماً خطر تجريمها في بعض الولايات القضائية كما أن أي بورصة للعملات الرقمية يمكن أن تتعرض للاختراق.
الكثير من الدول رحبت بالتعامل بالعملات الرقمية والكثير عارض، بل وحارب التعامل بها حيث تعتبر البلدان التي تسمح بتداول بيتكوين هي تلك التي تكون فيها الأنظمة أكثر تقدمًا من الدول الأخرى.
ومع ذلك، فإن معظم البلدان تقع بين التشريع وعدم التنظيم، لأنه وعلى الرغم من السماح باستخدام بيتكوين، إلا أنه توجد أي مبادئ توجيهية حقيقية لهذا التداول. ومن أبرز الدول المسموح بتداول بيتكوين فيها نجد السويد، المملكة المتحدة، كندا، ألمانيا، الإمارات، الولايات المتحدة الأميركية. وفي المقابل، تحظرها دول أخرى مثل لبنان، السعودية، مصر، الصين، بوليفيا، الجزائر، أيسلندا.
كثيرون يتنبأون بقرب نهاية عصر الدولار القوي، لكن هذا التخمين يبدو عسيرا على التحقق، على الأقل في الوقت الحالي. فتاريخ الدولار لا يخفى على أحد وسقوطه ليست مجرد أرقام تتناقص أو حتى قيمة تتضاءل، بل هو أمة أميركية بكاملها لن تتخلى عنه بهذه السهولة..
لقد أنهك الدولار الكثير من العملات والدول. لبنان على سبيل المثال أصبح ينهار شيئا فشيئا أمام ارتفاع الدولار الذي أضحى تماما كالمرض العضال الذي راح ينخر في جسد الليرة اللبنانية حتى صارت على حافة الانفجار من فرط التضخم، وما زال البنك المركزي يطبع دون توقف، وبذلك ينضم لبنان إلى رابطة الدول التي ترى في الدولار رمزا للغنى والسخاء.. ولكن هل فعلا بدأ العد العكسي للدولار أو حتى هل ستتراجع هيمنته قريبا؟
بعيدا عن التحليلات والمقالات وبالعودة قليلا إلى تاريخ العملة الخضراء، سنرى أنها لم تتصدر بسهولة بل هي أخذت موقع الملك وتمكنت منه بالتحايل والاتفاقيات، جزء كبير من الهيمنة الأميركية على العالم تقف وراءه هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي.
كانت الولايات المتّحدة تمتلك 75% من ذهب العالم وحدها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان الدولار الأميركي هو العملة الوحيدة على مستوى العالم المُغطاة بالذهب، مما دفع عددًا كبيرًا من دول العالم إلى العمل على تخزين الدولارات الأميركية بهدف استبدالها بالذهب مستقبلًا، وصار عدد كبير من هذه الدول يستخدم عملة الدولار كاحتياطي النقد الأجنبي. وهكذا تحقق حلم العمّ سام بالسيطرة على الاقتصاد العالمي.. ولكن تطورًا مهمًا حصل لاحقًا.
خاضت الولايات المتّحدة حرب فيتنام خلال الفترة من 1956 و1975. وكالمعتاد، احتاجت الولايات المتّحدة إلى المزيد من الدولارات لتغطية تكاليف الحرب، ولكن الدولارات المتاحة لم تف بالغرض، لأن الذهب الموجود في الولايات المتحدة (بل والعالم كله) لم يعد كافيًا ليغطّي الدولار الأميركي، وبالتالي قامت الولايات المتّحدة بتجاوز الحد الأعلى المسموح من الدولارات المطبوعة، وقامت بطبع دولارات غير مغطاة بالذهب دون أن تُعلِم أحدًا بذلك.
لكن الأزمة الكبرى حصلت عندما طالب الرئيس الفرنسي شارل ديغول عام 1968 بتحويل الدولارات الأميركية الموجودة لدى البنك المركزي الفرنسي إلى ذهب، مما دفع الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى إصدار بيان في عام 1973 يلغي فيه التزام الولايات المتّحدة بتحويل الدولارات الأميركية إلى ذهب، وقد أطلق على ذلك القرار اسم "صدمة نيكسون".
الأدهى من ذلك أن الدول كانت وما تزال مجبرة على التعامل بالدولار، لأنّها تستطيع التخلّي عنه بعد أن قامت بتكديس كلّ هذه الدولارات في الاحتياطي النقدي الأجنبي وإلّا ضاعت احتياطاتها أدراج الرياح.
من ناحية أخرى، لا أحد يجرؤ على فكّ ارتباط عملته بالدولار لأنّ الأسطول الأميركي الذي يجوب العالم ليس موجودًا لحراسة الفراغ، فالقوة العسكرية تحمي القوة الاقتصادية. وهكذا، تحوّل الدولار إلى أضخم عملة نقدية احتياطية أجنبية على مستوى العالم، حيث صارت جميع الدول مرغمة على التعامل به بالإضافة إلى كونه العملة الرئيسية التي يتم تحديد باقي العملات بناءً عليها.. مما رسّخ الهيمنة الأميركية على اقتصاد العالم.
ليست الأساطيل الأميركية وحدها لحماية الدولار، بل القواعد الأميركية والجيش الأميركي كله موجود للدفاع عن الورقة الخضراء. ولا ينسى أن الولايات المتحدة قوة نووية.
فمهما تراجع دور أميركا السياسي وجاءها رئيس مثير للشغب، خسرت صفقة ،حربا، أو مباراة.. ناوشتها إيران أو حتى روسيا أو الصين لا أحد يقدر على المساس بها طالما أن الدولار هو سيد العالم دون منازع.
وبالعودة الى العملات الرقمية فمهما علا شأنها وارتفعت قميتها، فهي زوبعة داخل فنجان بالنسبة إلى الزعيم الأخضر يراقبه بكثب ولعلهم حلفاء من تحت الطاولة ولا يدري أحد..