إصلاحات تبدأ من دور النشر!
كنت في زيارة عادية، عندما أهدتني السيدة ربة المنزل كتاباً لابنتها البكر، والتي لم تتجاوز السابعة عشرة، كتاباً جميلاً، أنيقاً، ملوناً بغلاف أرجواني يحمل عنواناً مثيراً يجذب المراهقين. تساءلت حينها: هل يمكن أن أنشر مجموعتي القصصية؟ تواصلت مع إحدى دور النشر المعروفة في لبنان، والتي كان جوابها باقتضاب: هل تملكين رأسمالاً؟
نعم، أحتاج رأسمالاً كي أنشر كتابي! أنا من أنهيت دراساتي العليا في الجامعة، ولم يسألني عن المحتوى أو الفكرة، القضية أو الكمية، اكتفى بذكر المال!
إذاً، المال يكفي لنشر ما أريد؟ ألوف من الدولارات بحسب ما أشار، بغض النظر عن أي شيء آخر! لا أعرف إن كانت الأزمة المالية والاقتصادية التي يعاني منها لبنان هي السبب، ولكن بعد تواصلي مع العديد من دور النشر، الجميع أصرّ على وجود المال أولاً، وإلا لا أمل في النشر، رغم طفرة دور النشر في بيروت، والتي تعتبر من الأعرق عربياً، اليوم أصابتها لعنة الدولار، ولا من دار تساعد أي كاتب مستجد.
مهما تكن الأسباب، فهذا إن دلّ على شيء، فهو يدل على المنحدر الثقافي الذي نواجهه اليوم! الواقع أنّ دور النشر في الوطن العربي لا تنشر في الغالب للكُتاب المُبتدئين، أشك حتى إن كانوا يقرؤون العمل أو يقيّمونه، يكفي أن تكون غير معروف ليأتيك الرفض، إلا إن حملت محفظة أموالك وعرضتها على الناشر ليلاقيك بابتسامة واسعة وتحصل على الموافقة.
ككاتب شاب مبتدئ، عليك أن تدرك أنّ طريق النشر مضنٍ ومليء بالصعاب، ربما تجد كثافة في النشر دون مضمون مجدٍ، وما عليك سوى أن تسأل الكتّاب الجدد عن معاناتهم في النشر الأول، لتسمع تنهيدة ونصائح مثل "إن كنت تبحث عن الشهرة أو المال من الكتاب فلن تجدهما، بل على العكس فالعملية فيها استنزاف مادي كبير". حتى يمكن أن تنهال على مسامعك نصائح مثل "اترك الكتابة نهائياً، فهي مضيعة للوقت واذهب إلى منصات التواصل الاجتماعي، حيث المال والشهرة!".
أغلب الناشرين في بلادنا أقرب إلى التجار منهم إلى منتجي الثقافة
يصاب هنا الكاتب المبتدئ بشيء من اليأس ويبقى النشر الورقي حلماً يراوده بعد أن صار عبئاً مادياً لا يمكن أن يتكفل به. إذاً، فما هو دور دار النشر؟
دار النشر هو مصطلح يُطلق على المراكز التي تقوم بعملية طباعة ونشر الكتب والمنتجات الفكرية، وتعتبر دار النشر من أقدم الوسائل لنشر المعرفة. هذا تعريفها، أما على أرض الواقع، فهي لا تتكفل بشيء مهما كانت الفكرة، فلم تعد المعرفة مهمة، ولا مستوى المعلومات الثقافي، اللهم بعض التصحيح اللغوي ثم تلاقيك بفاتورة عريضة تتضمن كلفة الإخراج الداخلي، كلفة تصميم الغلاف، نوع الغلاف، نوع الورق، عدد الصفحات.. بعدها تقوم بعملية النشر، حتى إنها رغم المبلغ الكبير الذي يدفعه الكاتب المبتدئ، فإنها تأخذ من أرباح المبيع نسبة محدّدة حسب الاتفاق.
من المؤسف أن نقول إن أغلب الناشرين في بلادنا أقرب إلى التجار منهم إلى منتجي الثقافة، حيث يتم ترك الكتّاب الجدد مع معاناتهم لإصدار كتابهم الأول. هناك أيضاً دور النشر التي تعتمد على العلاقات والوساطات في نشر الأعمال، وهذا الأمر كان سبباً في تدني جودة الكثير من الإصدارات الحديثة وبروز أسماء كُتاب جدد نالوا شهرة لا يستحقونها بالفعل. مثل الصحافيين الذين دخلوا باب الأدب، وسبب شهرتهم الوحيد هو تمكنهم من نشر أعمالهم، اعتماداً على الوساطة وكتابة تقارير صحافية عن أعمالهم في كبريات الصحف والمجالات، بفضل شبكة العلاقات والمصالح التي تربطهم بكبار الإعلاميين.
أذكر أنّ أحد الصحافيين المعروفين أصدر كتاباً وحصل على دعاية كبيرة في أغلب وسائل التواصل الاجتماعي، كان غلافه جذاباً وبراقاً مع عنوان يخطف الأنظار. لكن، بعد شرائي للكتاب، قرأت منه عشرين صفحة خالية من أي حوار أو وصف أو صور بيانية، عشرين صفحة من السرد الصحافي الممل، وضعت الكتاب جانباً، وأدركت أنه لا يستحق، أقلها، كلّ هذه الضجة.
كأنهم يزرعون السم في قعر الثقافة العربية ليتحطم معها مشروع أي شاعر أو أديب أو كاتب
يحتاج شباب اليوم إلى فرصة حقيقية للنشر، دار تتبنّى المواهب والأفكار الجديدة لتثري المجتمع، فعالم النشر والثقافة يحتاج اليوم إلى ثورة حديثة، لأنّ واقع النشر صادم ومخيّب لآمال الأجيال الصاعدة، لقد أضحى النشر وصناعة الكتب فقط لأصحاب المال أو الوساطات، وكأنهم يزرعون السم في قعر الثقافة العربية ليتحطم معها مشروع أي شاعر أو أديب أو كاتب.
على دور النشر أن تعطي أملاً لكلّ كاتب شاب، فالوضع العربي فيه ما يكفي من الألم والخيبة، فهل ستلاحقون اليوم صناعة الكتب وتسمّمون الثقافة العربية؟ أضعف الإيمان أن تدرس دار النشر عمل الكاتب وتقيّمه، وأن تنتقي نخبة من الشبان لكي تنشر لهم على نفقتها، ثم تأخذ من أرباح البيع، فهي بذلك تنشر المعرفة وتثري الثقافة العربية فعلاً.
بعد صراع الكاتب مع دار النشر تبقى الشبكة العنكبوتية مرجع الكتّاب الذين خسروا حربهم مع النشر الورقي، ليتجهوا نحو النشر الإلكتروني. ربما لا يلبي هذا الأمر طموحاتهم، ولكنه يبقى تعويضاً عن نكستهم، فهناك تطبيقات للنشر مثل "واتباد" التي تحظى بالعديد من الكتّاب وتجمع روايات عربية جيدة جداً، لكنها مجانية في الغالب، ويمكن أيضاً للكاتب أن ينشئ مدونة حول موضوع كتابه، ومن ثم يبدأ بنشره إلكترونياً، وبعدها يوفّر طرق ووسائل الشراء.
الحقيقة أنه نشر إلكتروني لا يشفي غليل من جلس أشهراً وليالي يكتب ويعصر فكره ليخرج عصارة فكره وشيئاً من نفسه، قبل أن ينصدم بالواقع الذي يكون أكثر صعوبة من مرحلة الكتابة نفسها، بل يأتي المال ليكون الفاصل والحكم بينه وكتابه! لندرك بعدها أننا نحتاج إلى عدّة ثورات عربية وإصلاحات تبدأ من دور النشر!