ملف: امرأة عربية بين الصبر والاستسلام (29)
مساء ساكنٌ جداً، يلعب أولاد "رانيا" بكلّ هدوء في حديقة المنزل الكائن في لندن، تنظر إليهم وتتساءل في نفسها: "هل ما فعلته عين الصواب أم أنني لست بنت أصل كما ينعتونني؟".
لقد زجت بوالد أطفالها في السجن تقول "أنا لم أبلغ الشرطة، الجيران فعلوا! لقد ملّوا سماع صراخي وأنا أضرب كلّ مساء، أبلغوا الشرطة" التي حضرت على الفور، شاهدوا الكدمات، وهي لم تنف واقعة الضرب، رمقها زوجها بنظرات مخيفة ثم أخذوه إلى السجن. اتصلت حماتها وأخبرتها أنها "من الشارع وليست بنت أصول، فبنت الأصول لا تضع زوجها في السجن". كذلك اتصل أخ زوجها وطلب منها التنازل، وأخبرها أنّ مثيلاتها لا تليق بهنّ لندن، وأنهم أخطأوا بإحضارها إلى هنا. بلعت ريقها بصعوبة، لم تنبس ببنت شفة، كانت تنظر إلى وجهها في المرآة، وهو مليء بالكدمات، لكن تأنيب الضمير كان أكثر إيلاما من كدماتها، "لقد سجنتي زوجك يا للعار"!
في الصباح حضر صديق زوجها إلى المنزل برفقة زوجته، وبكلام معسول منه ومن زوجته "وأنها بنت أصول" و"مرباية" وعتاب لطيف أنها أدخلت الأجانب بينها وبين زوجها، وأنّ الله مع الصابرين... تنازلت عن حقها، وأخرجته، إذ يصرّ صديق زوجها أنّ الزوج يعاني من إجهاد العمل والضغط النفسي، وعليها أن تصبر لأجل أطفالها.
خرج الزوج وجاء في اليوم التالي ليبرح "رانيا" ضرباً وتدخل على إثرها في غيبوبة لم تستيقظ منها حتى يومنا هذا.
يمطرنا علماء النفس والاجتماع بدراسات تفيد بأنّ المرأة تتحمل أكثر من الرجل، والدراسة الكندية التي أجرتها جامعة ماكجيل، ونشرت في صحيفة ذا صن البريطانية تشير إلى أنّ النساء أقوى من الرجال في تحمّل الألم، وأنهن يتعاملن مع الألم على نحو أفضل من الرجال. فلماذا إذا لا يتساويان في الفرص والأجور والمناصب؟ ربما هذا الشق يخصّ تحمل الألم فقط!
في كثير من الأحيان تكون دائرة الأمان مكونة من أزواج معنفين أو حتى أصدقاء سامين
في المقابل يصرّ بعض رجال الدين أنّ المرأة الصابرة لها الجنة دون حساب، وأنّ عليها التحمّل، وهذه الدنيا دار فناء وفي الآخرة الحساب... مسلمات تنتشر في مجتمعاتنا العربية وتتناقلها العائلات دون أن يشك أحد بمعانيها ومدلولاتها، ولكن كلّ هذا لا يعطي الرجل ذريعة للضرب والتعنيف.
ربما تعاني المرأة من آلام نتيجة دورتها الشهرية أو حملها وولادتها، ونعم عليها أن تصبر فما باليد حيلة، ولكن ماذا لو كان في اليد حيلة؟ ماذا لو استطاعت أن تمنع العنف والألم؟ أجل تستطيع! هناك باب للنجاة! ولكن إن أرادت المرأة ذلك.
المجتمع العربي، سواء في الدول العربية أو في الخارج، مليء بنماذج النساء الصابرات (حسب وصف الناس)، فكثيراً ما نسمع "فلانة صبرت على خيانات زوجها وتجاهلته حفاظاً على عائلتها"، و"فلانة صبرت على ضرب زوجها لأنه لا يوجد مكان تلجأ إليه وعندها بنات"، هذه هي السيدة العربية التي توصف بالأصيلة الصابرة!
ما يجب إيضاحه، أنّ هناك فرقا شاسعا بين الصبر والاستسلام وهذا ما يجب أن تدركه المرأة. لكن للأسف، هناك من تختلط المفاهيم عنده، سواء رجال الدين أم المجتمع، فالصبر يأتي بعدما يفعل الإنسان كلّ ما بوسعه، يطرق جميع الأبواب ويستنفد الحلول وينتظر النتيجة، أما الاستسلام فهو عدم محاولة الإنسان حل المشكلة والرضوخ للنتيجة والأذى المحاط به، دون بذل مجهود، وغالبا ما يكون يائساً. باختصار عدم محاولة الدفاع عن نفسك عزيزتي المرأة استسلام، وليس صبراً، تقبّل العنف استسلام وليس صبراً، السكوت عن الإهانة استسلام وليس صبراً، ولا أحد يرضى بذلك سوى العقل المريض.
لم يخبرنا المجتمع أنّ المؤمن القوي خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وأنّ الاستسلام هو عين الضعف ولا يرضاه الله، وليس من صفات المؤمن، فالاستسلام هو الحل الأسهل الذي يتبناه الضعفاء، وأنّ الله ليس بظلام للعبيد، وأن الله يبلي ويعين، يجتزئون قسماً من الدين ولا يأخذونه كاملاً! كلّه في نهاية المطاف يعزّز السلطة الذكورية الجاهلة!
تبني المرأة لاشعورياً دائرة أمان ترتاح لها وتسكنها. تتكوّن دائرة الأمان من شخصيات تختارهم بنفسها، وتقتنع أنها ترتاح بوجودهم وتتكيّف معهم ولا تقوى على تخريب تلك التشكيلة لأنها تخاف من التغيير الذي يصحب معه المجهول، وفي كثير من الأحيان تكون دائرة الأمان مكونة من أزواج معنفين أو حتى أصدقاء سامين.
إذا لم تغيّر المرأة أفكارها لن تفيدها المظاهرات ولا الشعارات الرنانة
يدرك عقل المرأة أنّ هذا الرجل معنّف ومريض نفسيا لكن خوفها من المجهول وكلام الناس والضياع والكثير من الأفكار اللامنطقية يدفعها للاستسلام للواقع المرير، وبالتالي عدم التخلّي عن زوجها المعنّف، فتعتاد على الإهانة والضرب، وكأنه جزء من نظامها، وفي اليوم التالي تخرج أمام المجتمع والناس، لتقنعهم أنه الزوج الأجمل والأرقى والأنقى، وتنشر صوره وكلامه على مواقع التواصل... كلّ هذا خوفاً من شماتة المجتمع ونظرته، لنصل إلى نتيجة مفادها أنّه في الكثير من الأحيان تكون المرأة عدوة نفسها، وأنّ دائرة الأمان وهم وأحلام، وأنها تستطيع التخلّي عنها لو أرادت ذلك.
أذكر أنني كنت في زيارة مفاجئة لصديقتي المتزوجة في تركيا عندما استقبلتنا على مضض، وبوجه شاحب، فشعرنا بتوتر في الأجواء وبعد دقيقتين خرج زوجها يحمل سكيناً، وبدأ بالصراخ ثم دفعها، قالت "حسناً هذا ما ألاقيه كلّ يوم، ضرب أمام بناتي الأربع"! كانت عيون الزوج مخيفة للغاية وبحالة غير طبيعية، لم يعرنا أدنى اعتبار، بل وهدّدنا بدوره إن أبلغنا الشرطة سيقتلها. وعندما غادرنا اتصلنا للاطمئنان عنها، وأخبرناها بأننا مستعدون للشهادة ضده في قسم الشرطة، وأنه يمكن سجنه بسهولة حسب القانون التركي. تمنعت صديقتي، وقالت "عندي بنات!". رغم أنها موظفة، أصرّت على البقاء معه والصبر! في الأسبوع التالي نشرت على صفحتها على "فيسبوك" صورة تجمعهما مع كلمات لطيفة بمناسبة عيد ميلاده.
لا أعتقد أنّ المرأة تحتاج إلى يوم عالمي، ولا لقوانين ومناصب، فطريق النضال طويل، وعليها أن تصعد سلّمه خطوة خطوة، والبداية تكون في الثورة على أفكارها ثم مجتمعها قبل الوصول إلى يوم المرأة والقوانين، فلا نفع لهذا، إن كانت ما زالت تعتقد أنّ الرجل هو السيد، وهي إنسان درجة ثانية، وأنّ الانفصال عيب وحرام، وأنّ هذا نصيبها وعليها أن ترضى!
إذا لم تغيّر المرأة أفكارها لن تفيدها التظاهرات ولا الشعارات الرنانة، فالكثير من النساء العربيات في البلاد الأوروبية يعانين من التعنيف والضرب وهن صامتات راضخات، لم تنفعهن القوانين طالما العقلية راضخة مستسلمة لأفكار مجتمعها الأم الذي أقنعها أنّ الاستسلام هو مفتاح الفرج!