هل تجاهلت الشعوب العربية الثورة الفكرية لمصلحة الثورة بمفهومها الكلاسيكي؟
فكرُ الثورة التقليدي والمتعارفُ عليه، وثورة الفكر على الأنماط السائدة، مصطلحان تمَّ ذكرهما في الكثيرِ من الكتبِ والمقالات، حيث وصف الدكتور محمد البدري مفهوم فكر الثورة التقليدي بأنه الثورة بمفهومها الاعتيادي، أي العمل على تغيير النظام الحاكم وأدواته فقط، بينما كان غالباً المفهوم الثاني، أي ثورة الفكر، مرتبطاً بتغيير القوالبِ الفكرية المؤثرة في المجتمع، إما من خلال إحداث تغيير حقيقي للمفاهيم، أو من خلال بث مفاهيم جديدة في المجتمع لتتوافق مع حالته السائدة وزمانه الذي يعاصره.
ومن المؤكد أننا كثيراً ما نخلطُ بين المصطلحين وأثرهما داخل المجتمعات، وهذا لا ينبع من الجهل المجتمعي بشكل مباشر كمسببٍ واحد، وإنما أحد مُسبباتهِ الرئيسية أيضاً هو تجاهل الشعوب غير المقصود لمفهوم ثورة الفكر؛ وأقول هنا غير مقصود لأن الشعوب العربية تبحث دوماً عن النتيجة السريعة لأي حركةً اجتماعية تقوم بها، والتي تضمن لها التغيير أو الخلاص السريع، وهذا ما دفع لقيامِ ربيع عربي أتى بنتائجه السريعة في بعض التجارب كمصر وتونس؛ وهي تغيير المنظومة الحاكمة فقط.
إلا أن نتائج هذا الربيع التي تطمحُ إليها الشعوب العربية، والتي كانت يجب أن تحصل، غابت عن حصاد هذه التجارب، فاكتفت الشعوب بتغيير أزرار القميص فقط وليس تغيير القميص بعاداتهِ ومفاهيمه القديمة.
في التجارب العربية لم تتحقق الغايات ولم يتغير شيء جوهري، بل على العكس، كان التغيير رهيناً بالأسماء فقط، إنما بقيت تلك الشعوب تعاني من نفس المشاكل والآفات التي كانت تعاني منها مع وجود النظام القديم، ومن هذا تبيّن أننا، وإن صح القول، نولي فكر الثورة الكلاسيكي الأهمية الأكبر، ونغفل أو نتناسى مفهوم ثورة الفكر وتغيير الأنماط السلوكية والفكرية، وذلك لأن الثورة في تاريخ المخيلة الفكرية العربية تقوم بتغيير أدوات الحكم، والتي يظن الكثيرون بأنها المعضلة الأساسية في مسيرة نهوض مجتمع ما، بما يدفع المجتمع ليسلك درباً واحداً وهو تصميمه على إسقاط المنظومة الحاكمة، معتقدين أنه الأثر الأقوى والأبقى والأصلح في المجتمعات، ولكن في مواقف كثيرة، قد يظهر أو يتبين لأي مفكر أو باحث في الحركات الاجتماعية، وفي حقيقة مشاكل مجتمع ما، بأن للثورة الفكرية أهمية كبيرة قد تمكن المجتمع من تجاوز كثير من مشاكله بمجرد الإرساء الصحيح للقيم القانونية والحقوقية والمبادئ والأفكار التي تصلح لنهضة حقيقية.
هناك نماذج من الثورات، التي تمثل الأغلبية حسب تجارب التاريخ، كانت آثارها محدودة زمنياً ومرتبطة بتغيير أسماء الحكام دون وضع أسس ثابتة قادرة على تطوير المجتمع
ومع دراسة الحالة المصرية أو التونسية، نجد أن الشعبين لم يحصلا على مطالبهما التي قامت الثورة التونسية والمصرية لأجلها، بل على العكس تماماً، زادت المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في البلاد. ومع التركيز في الحالة السورية كأنموذج، والتي لا تزال تعاني كبوة هنا وأخرى هناك، ومع ما يمرُّ به ربيع المجتمع السوري في ثورته، وجب القول بأن الكثير من الأطراف السورية التي كانت فاعلة في الساحة السياسية السورية منذ عام 2011 إلى الآن لم تقدم مشاريع حقيقية تسهم في طرح تصورات تناسب المجتمع السوري ومكوّناته؛ وفي فتراتً متفاوتة، كثيراً ما كانت أموال الدعم، التي قُدّمت من قبل أصدقاء الشعب السوري، تتجاهل أو تنفي المشاريع الشبابية المجتمعية التنموية الهادفة، والتي كان من شأنها أن تساعد الجيل السوري الشاب وتنقذه من غياهب الجهل، إذ كانت الجهات المسؤولة عن هذه الأموال تصب كل تركيزها على المجال العسكري والسياسي اللذين بشقيهما لم يحققا مأرب وطموحات الحاضنة الشعبية.
في حقيقة الأمر، الثورات التي كانت ضمن إطار فكري قليلة، ولكن لحسن الحظ أنها موجودة للاستفادة من تجاربها، حيث يؤكد الدكتور البدري أنّ أشهرها في التاريخ الثورة الفرنسية التي عملت على تغّيير القوالب الفكرية في المجتمع، فهذه الثورة كانت ثورة أيديولوجية في المقام الأول، الهدف منها ليس فقط تغيير الحكم وإسقاط رأس السلطة واستبداله بأفراد ومؤسسات مختلفة، ولكن تغيير طبيعة المجتمع الفكرية على الصعيد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
بينما هناك نماذج من الثورات، التي تمثل الأغلبية حسب تجارب التاريخ، كانت آثارها محدودة زمنياً ومرتبطة بتغيير أسماء الحكام دون وضع أسس ثابتة قادرة على تطوير المجتمع؛ فهي غيرّت الأنظمة السياسية ولكنها لم تغيّر الأفكار السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، ولم تدفع الأمة إلى التطور.
وفي هذا المضمار، فإن الشعب السوري أمام صراع أكبر بكثير من تغيير منظومة الحكم في سورية، وعلينا أن نعي جيداً، وخصوصاً بعد عقود من الظلام وسيطرة الديكتاتورية، بأنّ التغيير الحقيقي الذي يطمح لهُ الشعب السوري سيكون التركيز على مفهوم الثورة الفكرية، والذي بشكل من الأشكال عليه أن يكون مرافقاً على الأقل لمفهوم تغيير المنظومة الحاكمة وأدواتها، فأمام هذا الشعب العنيد الكثير من العقبات والصعاب التي سيحتاج خلالها عتاداً ثقافياً واجتماعياً وسياسياً يمكّنه من تجاوز تلك الصعاب ليتسنى له المضي قُدماً في أهداف ثورته لتشكل نموذجاً كحركة اجتماعية عظيمة.