ملف: تفاصيل مع العنصرية (21)
كنت أقرأ عنها في النصوص والأخبار، ولم أكن أتوّقعُ يوماً أن أكون عرضةً لها، أو حتى شاهداً عليها. حدث الأمر عندما كنت في طريقي إلى مدينةِ أنقرة لحضور مؤتمر طلابي. حينها، أوقفنا حاجز الشرطة التركية فجراً، وعندما علم أحد العناصر بأنني، وصديقي، نحمل الجنسية السورية، أنزلنا من الحافلة وبدأ بتوجيه أقسى الكلمات العنصرية لنا. كانت كلماته كالرماح القاتلة، مليئة بالشتائم والإهانات المريرة. وبعد كلّ هذا أمرنا ضابط نقطة التفتيش بأن ننتظر بعيداً عنهم، ثم أمرنا مرّة أخرى، بأن نعود من حيث أتينا، وقد فعلنا ذلك سيراً على الأقدام، لأنّ المنطقة شبه خالية من السيارات المارة.
وصلنا إلى المنزل في الساعة التاسعة صباحاً، لأعتكف في غرفتي لمدة أسبوع، أفكر بالعنصرية وأسباب نشوئها، معطوفاً عليها أسئلة من نوع: من هم؟ ومن نحن؟ وما هي المواجهة؟ وما هو الهروب الذي يُقدم عليه بعض الناس كونهم عرضة للعنصرية؟ وهل نحن عنصريون دون أن ندري أم مُنحازون؟
يظنّ الفردُ منّا في الحياة اليومية بأنّه بعيد كلّ البعدِ عن أن يكون عُنصرياً، ولكن ما إن يحتدمُ موقف ما، حتى يُظهر الإنسان انحيازه الباطن تجاه أمر ما أو شخص ما، وهذا يتشابه إلى حدّ ما مع العنصرية بطريقة الحكم على الأقل، فيكونُ هنا التحيّزُ مرجعاً للحكم على الأشخاص، سواء أكانوا من قريةٍ أخرى أو شارع مقابل. ولكن، هذا الإنحياز لا يصل إلى درجة العنصرية، والتي تدفع أشخاصاً للقتلِ أو انتهاكِ حقوق الآخر، بصفته ينتمي لمكان أو بلد أو عرق أو دين مختلف. ولذا يمكن القول، إنّ تمييز حقيقة مفهوم العنصرية وفهمه الصحيح، هو ما يدفع الإنسان إلى أن يكون منحازاً فقط، أي أن يتقبّل الأخر دون إلحاق الضرر، وهذا هو الفرق بين الانحياز والعنصرية.
يُمكننا وصف العنصرية بطرق شتّى، ولكن يتفقُ الجميع على أنّ العنصرية هي شعوٌر يعبّرُ عنه الشخص تجاه شخص، أو مجموعة، أو مكوّن معين من الناس، بناءً على لونِ بشرتهم أو دينهم أو انتمائهم العرقي. وبدوره سيؤدي إلى معاملات أو أفعال عنصرية، مثل استخدام العنف أو الإكراه أو الحرمان من الحقوق، وكلّ هذا يستند إلى تفكير بأنّ هؤلاء ليسوا مثلنا، أو أنهم لا ينتمون إلينا، وما شابه ذلك.
لطبيعة النظام السياسي في لبنان تأثير كبير في تفشّي العنصرية على صعيد الشارع، وعلى صعيد مؤسسات الدولة والخطاب السياسي أيضا
يُمكن أن تختلف درجات العنصرية تبعاً للزمان أو المكان، فالمنطقةُ العربية على سبيل المثال، كانت مليئة بالعنصرية في فترة ما قبل الإسلام، وهي عنصرية عصبية موجودة بين العرب بحسب القبيلة، وكانت تؤدي إلى الحروب والصراعات القبلية، لكن بمفهوم مختلف عن مفهوم العنصرية الحالي لأنها كانت تحت غطاء السيادة والتنافس.
أنهى الإسلام تعصّب القبائل وندّد بها الرسول الكريم محمد (ص)، وحثّ العرب على تركها على اعتبار أنّ الناس سواسية لا فرق بين أبيضهم وأسودهم، قويهم وضعيفهم...، أي أنّ رسالة الإسلام كانت للعالم أجمع، ولم تكن حكراً على أمة أو عرق بعينه.
أما من أين تستمد العنصرية وثقافة الكراهية خطابهما ومفرداتهما؟ من أين تتغذّيان؟ من الثقافة المجتمعية أم من الخطاب السياسي، فيمكن القول: يختلفُ تشكيل الأحزاب اليمينية المتطرفة اعتماداً على الوضع في كلّ بلد، لكن الجميع يشتركون في الأسس الإيديولوجية التي تميّزهم كتيار سياسي واحد ومتجانس، ومن سماتها القومية المفرطة ورفض تقبّل المهاجرين من ثقافات وأديان مختلفة، وكلّ هذا يكوّن بحجة الدفاع عن السيادة الوطنية.
على صعيد الغرب، للعنصرية بذور قديمة، غرستها النعرات الدينية تارة، والطائفية تارة أخرى، وقد نتج عنها حروب كثيرة أرهقت الغرب لعصور طويلة، وبقيت أثارها حتى يومنا هذا، حيث عادت العنصرية للظهور بقوة من خلال اليمين المتطرف الذي قام بترويج خطاب تخويفي، يُحذّر من أنّ الغرب في طريقه إلى خسارة هويته بسبب الهجرة الواسعة من بعض البلدان المسلمة والبلاد الأفريقية، وقد وجد هذا الخطاب قبولاً متزايداً في الآونة الأخيرة.
وأما على الصعيد العربي، فهناك الكثير من الطوائف والأعراق التي تعيش منذ مئات السنين بسلام ضمن البيئة العربية، وقد امتدت العنصرية حديثا من الخطاب السياسي، ولم تكن أصيلة متناقلة عبر الأجيال. فعلى صعيد تونس مثلاً، كان لسيطرة الشمولية أثر كبير في دفع بعض مؤسسات الدولة لتبني خطاب يميني عنصري يغطي على عيوب وتقصير الدولة في مناحي الحياة، ولم يكن لهذا الخطاب العنصري تواجد على صعيد الشارع التونسي، وهذا هو الأهم في الحكم على مدى تفشّي العنصرية في بلد أو مجتمع ما.
يتعرّض السوريون في تركيا لحالة من العنصرية المبنية على النظرة العرقية والإختلاف الثقافي والتوّجه الديني في بعض الأحيان
وأما في الحالة اللبنانية، فقد كان لطبيعة النظام السياسي تأثير كبير في تفشّي العنصرية على صعيد الشارع، وعلى صعيد مؤسسات الدولة والخطاب السياسي أيضا، دون أن نهمل تأثير تصرّفات الجيش السوري خلال فترة وجوده في لبنان على ما يحصل الآن، حيث يرى البعض أنّ الأمر يأتي انتقاماً، ولكن على حساب السوريين الأبرياء الذين نزحوا إلى الأراضي اللبنانية بعد عام 2011، ما يدفعنا للقول إنّ تفشّي العنصرية بين بعض مكوّنات الشعب اللبناني مبنياً على تأثير طائفي وموقف سياسي.
أما في تركيا، فيتعرّض السوريون لحالة من العنصرية المبنية على النظرة العرقية والاختلاف الثقافي والتوّجه الديني في بعض الأحيان، وهذا النوع هو من أخطر أنواع العنصرية، ويتشابه إلى حدّ ما مع أفكار التيار اليميني الفرنسي في طريقة نظرته نحو اللاجئين، والتي زاد من منسوبها خطاب الأحزاب السياسي المعادي للاجئين، فتلك الأحزاب تنتهج طريقاً فاشياً صريحاً بمعادتها اللاجئين، مما يؤثر سلباً، بطريقة أو بأخرى، على رأي الشارع التركي تجاه اللاجئين.
أخيراً، يمكن القول: لا يقتصر الدور على سن الحكومة لقوانين تجرّم العنصرية، لأنّ الحكومات تتغيّر وتختلف في غاياتها وسلوكياتها، لذا يجب أن يكون الدور واقعاً أيضاً على الأسرة في التوعية المبكرة من خطورة العنصرية. وحتى منظمات المجتمع المدني، يجب ألا يقتصر دورها على علاج الأشخاص الذين تعرّضوا للعنصرية، بل عليها تفعيل دورها في مجال التوعية من خلال عقد محاضرات تأخذ منحى توعوياً اجتماعياً عن مدى خطورة العنصرية التي يمكن أن تنهي حياة الكثير من الأشخاص بسبب عرق أو لون، لم يساهموا هم في اختياره أصلاً.