نغم يمني يطرب باريس
كما يفعل الشعب اليمني منذ القدم، يستمر الفن والإبداع اليمني في السفر والرحلات؛ والنغم اليمني هو بطل أحدث رحلة لليمن؛ إذ رقص هذا النغم في قاعة ومسرح منغادور في العاصمة الفرنسية باريس، في حفلة جذبت إليها الكثير من الأضواء في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2023 الحالي، وذلك تحت عنوان "نغم يمني في باريس"، التي نظمتها جمعية "حضرموت"، بقيادة الموسيقار محمد القحوم، وهو الشاب اليمني الذي يبتكر أوركسترا تراثية، يمزج فيها العناصر التقليدية اليمنية، المتمثلة في الآلات الموسيقية، والإيقاعات التراثية، والرقص الشعبي، واللباس التقليدي، مع الأصوات والإيقاعات الحديثة للموسيقى العالمية الأوركسترالية؛ مبرزاً بهذا جمال وثراء الموسيقى اليمنية، بما يساعد في وصول الفن اليمني إلى العالم، لينقل رسائل سلام من خلال ثورة السيمفونيات التراثية اليمنية.
قاد المايسترو القحوم فرقة موسيقية مكوّنة من 70 عازفاً وفناناً يمنياً وأجنبياً، لعزف مقطوعات يمنية فرنسية، وصاحب العرض بعض العروض الفلكلورية اليمنية، وقد قدّموا عشرة ألوان موسيقية تراثية يمنية مختلفة، بعد أن جرى مزجها بالموسيقى العالمية، ومن هذه الألوان: الملالة التعزية، الدان الحضرمي، الشرح التهامي، السارع الصنعاني، اللون المهري، اللون اليافعي. وقد تمكّن المنظمون من إحضار ثلاثين عازفاً وفناناً من مختلف مناطق اليمن المحاصر.
تذكّرني هذه الحفلة بالمعرض التشكيلي الذي نظمته الفنانة التشكيلية سحر اللوذعي (من شمال اليمن) في نيويورك قبل مدة قصيرة، حيث نظمت معرضاً فنياً لثلاثين طفلاً ويافعاً من مختلف محافظات اليمن، وهذا ما نجح في فعله المنظمون لحفلة "نغم يمني في باريس"، حيث اختاروا فنانين من مختلف محافظات اليمن، شمالها وجنوبها. وكون المنظمين من جنوب اليمن، فهذا يثبت، وعن طريق الفن، أنّ اليمن واحد لم تتمكن الحروب، ولا الوشايات، ولا السياسات، من تمزيق شعبه. فشعب اليمن يحمل هوية واحدة وروحاً واحدة، في شماله وجنوبه، وشبابه كأجدادهم ينتمون إلى كلّ شبر فيه، ولديهم مواهب وإرادة ليثبتوا للعالم مشروعهم الفني الواضح، فيطوفوا دول العالم للتعريف باليمن وثقافته وفنه وملبوساته، إنهم شباب كسروا حاجز الإقصاء، وتجاوزوا الحصار، وصحّحوا الأخبار الكاذبة عن تشظّي اليمن وانقسامه؛ بإبداعهم في الفن والتنظيم والاختيارات.
شباب كسروا حاجز الإقصاء، وتجاوزوا الحصار، وصحّحوا الأخبار الكاذبة عن تشظّي اليمن وانقسامه؛ بإبداعهم في الفن والتنظيم والاختيارات
وبالعودة إلى النغم اليمني؛ ليست هذه هي الحفلة الأولى، فقد سبقتها أخرى نظمها الموسيقار محمد القحوم؛ في العام 2019، من خلال حفلة "الأوركسترا الحضرمية"، في دار الأوبرا الماليزية في "أستانا بودايا" بالعاصمة كوالالمبور، قدّم فيها ستّ مقطوعات فنية موسيقية بإيقاعات حضرمية، وبروح أوركسترالية عابرة للحدود الجغرافية، تلتها حفلة "نغم يمني على ضفاف النيل" عام 2022 في دار الأوبرا المصرية في العاصمة المصرية القاهرة، وهو بهذا يعزّز دور الفن، ويثبت أنّه السفير الأهم للشعوب، لأنه يقدّم روح الشعوب وثقافتها.
إذا كان العالم يتجه نحو العلاج بالفن؛ فقد استخدم اليمنيون الفن علاجاً للموت، ومضاداً حيوياً ضد نسيان الحضارة اليمنية، ونشَّطوا عبره صورة الحضارة والهوية والفن اليمني، وعزّزوا من خلاله حقيقة إبداع اليمني في كلّ مجالات الحياة والحضارة القديمة والحديثة، ليستطيع بذلك شباب اليمن إيصال الصورة الحقيقية لليمني الذي لم تتمكن كلّ المجازر والحروب من النيل من صورته وملكته الإبداعية المتميّزة المتيقظة.
إنّ الفن اليمني الأصيل الذي غذّى أرواح اليمنيين منذ نعومة أظفارهم ينضح من إبداعهم، رسماً وعزفاً وكتابةً، وفي كلّ مجالات الإبداع. وكما قيل في الإعلان الرسمي لحفلة باريس "رحلة الألف ميل ربما تبدأ بخطوة؛ لكن رحلتنا بدأت بنغمة، بفكرة، حكاية ترويها الألحان والإيقاعات من تراثنا الغني إلى كل العالم".