"المكتبات البشرية"... وصرنا "نستعير" البشر!
هل فكرت يوماً بأن "تستعيرَ" بشراً بدلاً من أن تستعيرَ كتاباً؟ وإذا استعرته تحت مسمّى "كتاب بشري"، فكيف ستتعامل معه؟ وأيّ المواضيع ستختار؟
لقد صار هذا متاحاً بالفعل فيما يسمّى بـ"المكتبات البشرية"، وهي مكتبات مثل سائر المكتبات الأخرى، إلا أنّها مخصّصة "لاستعارة" الأشخاص بدلاً من الكتب، فكما تقوم بتفقد كتاب ورقي حول موضوع تهتم به، تتيح لك هذه المكتبات أن تتفقد كتباً بشرية تحمل تجارب مختلفة وثرية. بإمكانك، مثلاً، "استعارة" شخص للتعرّف إلى تكنولوجيا جديدة، أو حالة إنسانية فريدة حين تطلب قراءة شخص لاجئ، أو فنان، أو من ذوي الاحتياجات الخاصة، فهو يحكي لك قصته وخبرته وتجاربه الخاصة، ما يساعدك على تعلّمها، ويوّفر عليك الكثير من البحث وتضييع الوقت في البحث عن كتب مناسبة، وعمّا يمكنك الحصول عليه من تلك الكتب.
ابتُكرت هذه المكتبات بهدف تسهيل المحادثات، وتدريب الأشخاص الذين يعانون من صعوبات في التفاهم مع الآخرين، أو يواجهون مشكلاتٍ في التفاعل الاجتماعي في حياتهم اليومية، وهي بهذا تقدّم إلى جانب المعلومات مهارات للتواصل، وتساهم في تعزيز التواصل الإنساني، والتماسك الاجتماعي. وتحرص هذه المكتبات على توفير العديد من "الكتب البشرية"، من أفراد متنوّعي الأديان والثقافات والأعراق والخبرات المختلفة، وقد ارتادها الكثير من الناس حول العالم. وما يزيد هذه الفكرة جمالاً، أنّها لا تتطلّب سوى توفير مكان معيّن، وأشخاص يروون قصصهم، وآخرين بحاجة للاستماع، أي أنّها أشبه بورش الحكي.
عُرِف الحكي قديماً كوسيلة تسلية في الغالب، كان هذا قبل وجود التكنولوجيا المسموعة والمرئية، وكان للحكّائين أساليبهم الخاصة في تشويق المستمعين وجذبهم للاستماع إلى حكاياتهم، ومتابعة مجالس حكيهم، وهذا يساهم في تسلية وإفادة المستمع، ولعلّ شهرزاد وقصص ألف ليلة وليلة خير دليل على عشق الإنسان منذ القدم للحكي، والاستماع للحكايات. كما أنّ كتاب "ألف ليلة وليلة" قدَّم الحكي كوسيلة لإنقاذ الحياة، حين جاءت شهرزاد الحكاءة المتمكّنة، ونجت بحكيها من بطش الملك العجيب شهريار، والذي كان يهوى الزواج بالفتيات لليلة واحدة، ويقتلهن بعدها!
ابتُكرت "المكتبات البشرية" بهدف تسهيل المحادثات، وتدريب الأشخاص الذين يعانون من صعوبات في التفاهم مع الآخرين، أو يواجهون مشكلاتٍ في التفاعل الاجتماعي في حياتهم اليومية
يأخذنا هذا إلى الحديث عن "العلاج بالحكي"، وهو وجه آخر للحكي وفائدته التي تعود على النفس البشرية، حيث يقدّم علم النفس "الحكي" كأسلوب للعلاج. لكن، ما يحدث هنا هو العكس، فالعلاج بالحكي يتيح للشخص المحتاج للمساعدة أن يحكي، لذا يتم توفير معالج نفسي قادر على الاستماع إليه، كي يساعده على حكي بعض القصص المكبوتة، والتي أحدثت فيه شروخاً نفسية، وهذه طريقة أساسية تعتمدها أفضل مراكز العلاج والتأهيل النفسي، حتى أنّ بعضها يقوم بتدريب المرضى النفسيين على الحكي؛ لدفعهم للتعبير عن أفكارهم. وتكمن أهمية ذلك في أنّ المريض النفسي في الغالب لا يستطيع التعبير عن نفسه أو أفكاره بشكل جيّد، وحين يتمكن من ممارسة ذلك بشكل واضح، يكون قد خطا أولى خطواته نحو الشفاء. كما يساعد الحكي على تدريب المريض على النظر إلى الأحداث من زوايا جديدة ومختلفة، ويتعرّف كيف ساهمت "جروح الطفولة" في تكوين عقد نفسية صاحبته وسبّبت له الألم على مدار سنين حياته.
وبالعودة إلى "المكتبات البشرية"، يجدر بنا أن نذكر أنّ فكرة هذه المكتبات بدأت في كوبنهاغن في ربيع عام 2000؛ لتصبح اليوم موجودة في العديد من الدول حول العالم، وتعرض كلّ منها العديد من الكتب البشرية في العناوين المختلفة، وتعتمد على القصص المثيرة والجدلية وغير النمطية، وقد جذبت إليها آلاف القراء الذين ذهبوا إلى تلك المكتبات؛ لمعرفة قصص أشخاص مختلفين عنهم تماماً، وبهذا تتحقّق المقولة المتداولة مجازاً "فلان كتاب مفتوح"، ومع هذا لا يمكنك الوثوق بصدقه في كلّ ما يحكيه.
وأنت عزيزي القارئ: هل من الممكن أن تتحوّل إلى كتاب مفتوح؟ وإذا فعلت هذا؛ فكيف ستختار توّجهك؟ وماذا سيكون عنوانك؟