ليس أعمى

09 يناير 2023
+ الخط -

في الرابع من يناير/ كانون الثاني 1809، ولد في مدينة كوبفراي شرق العاصمة الفرنسية باريس، وفي الثالثة من عمره تعرّض لحادثة أفقدته بصره.

كان الطفل حاد الذكاء، فتعلم الموسيقى حتى صار موسيقيّاً بارعاً، ثم عمل معلماً في المعهد الملكي لرعاية المكفوفين، وبعدها تمكّن من تعلم الكتابة عن طريق الشيفرة العسكرية التي يستخدمها الجيش الفرنسي في حربه ضد الألمان والتي تتكون من اثنتي عشرة نقطة تكّون جميع الكلمات، ثم عدّل على هذه اللغة واختصر النقاط الاثنتي عشرة إلى ست نقاط فقط، لتصير لغة للمكفوفين تمكّنهم من القراءة عبر لمس الأحرف بالأصابع.

ذلك هو برايل الذي نحتفل اليوم بمولده احتفاء باختراعه العلمي (لغة برايل)، التي خدمت المكفوفين في العالم أجمع.. برايل الذي خرج عن قيد الإعاقة بإبداع ينفع كل من يشاركه ألم الإعاقة نفسها ليروا العالم بأصابعهم عوضاً عن أعينهم..

يثير اهتمامي كثيراً أولئك الذين يعانون من إعاقات معينة وبعيداً عمّن يحب تسميتهم بـ"أولي الهمم"، "المبصرين"، أو أي تسميات تلطف واقعهم؛ لكنهم بالفعل يثيرون اهتمامي وإعجابي برؤيتهم الحياة بطريقة متفردة مختلفة عن المبصرين؛ بل بطريقة عميقة أكثر قرباً من كنهها.

ثم يبرز الكثير منهم ليضيؤوا لنا العالم، نحن المبصرين المتكاسلين، بإبداع عظيم كأبي العلاء المعري، والأديب المصري طه حسين، والشاعر اليمني العظيم عبد الله البردّوني الذي كان فلتة لا تتكرر، والعصور القديمة والحديثة ممتلئة بأمثالهم.

بالنسبة لي، فإن شمساً أشرقت على روحي وأنارت لي حياتي العلمية منذ أول يوم بدأت فيه دراسة اللغة العربية في كلية الآداب، جامعة صنعاء، اليمن، متمثلة في الدكتور العظيم محمد ناصر حُميد الذي درسني النحو وعقد صلحاً بيني وبين شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك، وعزز حبي للغة العربية والنحو أكثر مما كان.

لم يكتفِ بها فقط؛ بل شجعني كثيراً على الإلقاء والكتابة الأدبية وكثيراً ما كان يستمع إلى كتاباتي ويطرح عليّ الأسئلة المحيرة ويناقشني في مواضيع كثيرة تحثني على المطالعة أكثر، ووصل كرمه حد دعوتي إلى مكتبته الخاصة في منزله، وترك المجال لي لاختيار ما لذ وطاب من كتبه في أي توقيت للاستعارة.

ما زال ضوء أستاذي وأبي في العلم الدكتور محمد ناصر حُميد مشرقاً في حياتي حتى هذه اللحظة، ليس فقط لتمكنه من المادة العلمية؛ بل لثقافته الواسعة وتبحره في كل ما نناقشه فيه، بتعايشه الجميل مع إعاقته حينما تسمعه يحكي بضحكته الواضحة أنا أعمى، وكيف كوّن طريقة خاصة لرؤية الحياة من حوله، وفهمها وتحليلها، لدرجة يتمكن معها من وصف أشكال الأشخاص وطريقتهم في المشي واللبس!..

يثير إعجابي بشخصيته الواثقة التي يجابه بها العالم كجبل شامخ لا يعرف الانحناء، بضحكته المجلجلة التي تستدرجك إلى المرح مهما كانت نوايا النكد في داخلك.

لك من قلبي السلام يا أعظم أستاذ علمني، وأحن أب تبادلت معه أطراف الحنين، وأعود لأهديك قصيدتي القديمة:

سأرسم من ملامحك القصيد

ويوحي طرفك الأخاذ ألواناً

تسافر بي

إلى عمق

بعيد

سأنزع من صراخ الصمت سوطاً؛ كي

يرافقني إذا ما خانني

بوحٌ بليد.

دلالات