فقه الميزان (2)... التاريخ والتأسيس
انشغلت بموضوع فقه الميزان منذ أكثر من ربع قرن حيث انقدح تساؤل جديد في ذهني عندما كنت أقرأ القرآن الكريم في إحدى الليالي فوصلت إلى قوله تعالى: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ". وتكرر مثلها قوله تعالى: "اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ".
أوقفني إحساس غريب، وأصابتني قشعريرة في جلدي عندما تنبهت لهاتين الآيتين حيث تدلان على أن القسط يتحقق بالكتاب والميزان معاً، فقد عرفنا الكتاب -يا رب- وهو القرآن الكريم، والكتب المنزلة على الأنبياء والمرسلين.
لكن ما هو الميزان الذي يذكر مع الكتاب، ويتوقف عليه تحقيق العدل في الفهم والقول والعمل؟ هرعت إلى كتب التفسير، فلم تسعفني الإسعاف الكامل، ولكنها أرشدتني إلى بعض إضاءات طيبة..
جاء في تفسير القرآن العظيم: (هو العدل، قاله مجاهد وقتادة، وغيرهما، وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة كما قال تعالى: "أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ". وقال تعالى: "فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا".
هذا التفسير جيد، لكنه لا يتحدث عن هذا الميزان، وعن كيفية تحقيق العدل به. ومعظم المفسرين فسروا الميزان بالعدل، وهو دور؛ لأن الغاية منه هو تحقيق العدل فكيف يفسَّرُ بالعدل نفسه؟! وهنا جاء التفكير في بحث واكتشاف هذا الكنز العظيم من خلال الرجوع ، والتدبر في كتاب الله الكريم الذي لا تنتهي معجزاته إلى يوم الدين.
ثم نظرت إلى سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ومواقف وآراء الخلفاء الراشدين، فوجدتها تقوم على هذا الميزان، وبالمقابل فقد فزعت من الاختلافات الكثيرة والكبيرة بين الجماعات والحركات الإسلامية، وطلبة العلم من المدارس المختلفة حتى بلغت إلى مرحلة تكفير بعضها لبعض، ومع ذلك يستدل الجميع بالقرآن الكريم وبالأحاديث النبوية في فراق شديد بلغ النخاع ليس من الاختلاف المشروع، بل هو من الفراق المذموم الذي يجعل الأمة مختلفين في الدين نفسه، وإنما المشروع هو الاختلاف الفقهي الذي يؤدي إلى إثراء الفقه به، وإلى تحريك الواقع الفقهي، وإلى إيجاد أكثر من حل وبالتالي تظهر منه مرونة الشريعة وسعتها.
ولكن الخلاف اليوم خرج عن هذا الإطار تماماً بل وصل إلى مرحلة الافتراق والخراب والشقاق والتفسيق والتكفير، وإلى الاستهانة بالآخرين والاستخفاف بهم، بل قتلهم والتآمر مع الأعداء ضد مَنْ يدعو إلى تطبيق الشريعة، فأين الخلل إذنْ؟
وبعد التعمق في أسباب هذه الشدة في الخلاف، والقسوة في الحكم وصلت إلى أن أحد أهم أسبابها يعود إلى عدم وجود معيار يتحكم في أحكام هؤلاء، وإلى خلط كبير بين أبواب العقيدة والعبادات (الشعائر) بأبواب العادات والسياسات ونحوها، وهذا ما نسميه بفقه الميزان.
فقد كانت مبادئ الأصول، وقواعد الفقه، ومقاصد الشريعة معياراً لصحة الاجتهاد، أو عدم صحتها في القرون السابقة، ولذلك أولى لها العلماء السابقون عناية منقطعة النظير، وجعلوها شرطاً لصحة الاجتهاد، أما اليوم فقد يجتهد البعض ويتصدى للإفتاء وهو لا يعرف شيئاً يذكر عن أصول الفقه وقواعد الفقه ومقاصد الشريعة وفقه المآلات وفقه التنزيل..
فقد جاءت موجة عارمة -منذ بداية القرن العشرين- بالعودة المباشرة إلى الكتاب والسنة، فهذا أمر طيب، ولكن الخلل الذي صحب هذه الدعوة هو نبذ جهود معظم الفقهاء والأصوليين والمفسرين وشراح الحديث، بل اتهام بعضهم بالبدعة والضلالة، وحرق بعض أهم الكتب، مثل فتح الباري للحافظ ابن حجر، وشرح صحيح مسلم لنووي بحجة أن صاحبيهما من الأشاعرة.
أوليت عناية كبيرة بهذه الدراسة خلال هذه السنوات، ولم أستعجل في نشرها، بل عرضتها في أكثر من ندوة علمية
فهذا المنهج الخاطئ أدّى إلى أن يعتمد بعض أصحابه على بعض الآيات أو الأحاديث دون فكرة الجمع، ولا الاعتماد على مبادئ علم الأصول ولا فقه الميزان فجعلوا "الْقُرْآنَ عِضِينَ".
ثم يستغل هذا المنهج للإضرار بالدين من خلال تكفير المخالف الذي يؤدي إلى القتل والتفجير، وإلاّ فكيف يُفسّر إقدام جماعة جهيمان العتيبي -الذي كوّن في السعودية الجماعة السلفية المحتسبة- ونالت رضا كبار مشايخها على قتل الآمنين من الحجاج والمعتمرين داخل الحرم المكي، والعزم على قتل ملك السعودية ومن يحضر معه في 1/1/1400هـ بحجة كفر هؤلاء الحكام وإقامة دولة الإسلام!
وكذلك ما فعلته القاعدة وبوكوحرام ونحوهما، وبخاصة (داعش) من الجرائم التي ينْدى لها الجبين في حق المسلمين وغيرهم -وبخاصة أهل السنة في العراق وسورية واليمن وليبيا وغيرها- وبحق الإسلام من تشويه صورته القائمة على الرحمة.
وكل هؤلاء وأولاء يستشهدون بالآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريعة جهلاً، أو زوراً وبهتاناً، وهذا ما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم من اختلاس العلم من الناس، ورفع العلم الحقيقي، وحينئذ يضل المسلمون مع وجود القرآن الكريم كما ضلّت اليهود والنصارى مع وجود التوراة والإنجيل.
إذن فمعالجة هذا المنهج الخاطئ الخطير لن يتحقق إلاّ بمنهج أصيل مأخوذ من القرآن الكريم نفسه ومسترشد بفهم السلف الصالح وهو (فقه الميزان). إن فقه الميزان يمثل أهم معيار لفهم الشريعة فهماً صحيحاً عميقاً، ومن أهم أسباب رفع الخلاف، أو تقليله، أو على الأقل فهم البعض واستيعابه للبعض.
إنني على يقين جازم بأن الله تعالى قد بيّن للأمم السابقة من خلال الرسل، ولهذه الأمة في رسالته الخاتمة كل ما تحتاج إليه في جميع شؤونها الإيمانية والشعائرية والعملية، فقال تعالى: "لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً" وقال تعالى: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" وقد أنزل الله تعالى رسالته الخاتمة لبيان الحق الأبلج، ولبيان الخلاف الذي وقع بين الأمم السابقة، ولرفعة هذه الأمة المسلمة التي جعلها الله "خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" وشهداء على الناس لبيان الحق والباطل، قال تعالى: "يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" وقال تعالى في بيان حكمة نزول القرآن: "لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ". وقال سبحانه: "وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ".
هذه النصوص وغيرها تدل على أن الله تعالى بيّن حقيقة هذا الدين وأركانه ومنهجه والصراط المستقيم، وأن رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم قد ترك هذه الأمة على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها، وبالتالي لا يمكن أن يكون القرآن الكريم قد أغفل الموازين التي تزيل الخلاف بين المسلمين في الأصول والثوابت ، وتقلل الخلاف في الفروع والجزئيات.
فقد جاء هذا الدين الخاتم (الإسلام) ليكوّن "خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" خيرية الصفات والأخلاق، لا خيّرية الأعراق، فهو خير كله، ورحمة وشفاء وهداية للعالمين، وليس شقاء وقسوة أو عدواناً وطغياناً، وقد أمر المسلمين بإقامة الدين وعدم التفرق فيه، و"إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ".
وأن القرآن الكريم سجل حافل للأمم الذين اختلفوا بدون هداية وكتاب، والذين اختلفوا بعدما جاءهم العلم والبيّنة فقال تعالى: "وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ".
إذن كيف يمكن أن ينبثق من هذا الدين نفسه كل هذه الاِختِلَاَفَاتُ وَالفِرقُ وَالمِلَلُ وَالنِّحَلُ المتحاربة؟!.. ومع الأسف الشديد كل هؤلاء وأولاء يستدلون بالكتاب والسنة على دعاواهم!
من هنا كان بحثي عن هذه الموازين التي وضعها الله تعالى في شرعه للوصول إلى الحق والحقيقة بوضوح، وكان ديدني دائماً هو البحث عن إيجاد عن أسباب هذا الخلاف الشديد بين المسلمين اليوم، وبين حركاتهم وجماعاتهم الإسلامية حتى داخل أهل السنة والجماعة، في حين إن المفروض أن جميع المؤمنين بالقرآن الكريم وبيانه المتمثل في السنة أنْ لا يختلفوا في الأصول، وأنْ لا يكون خلافهم في الفروع سبباً لتفرقهم وذهاب قوتهم وريحهم مادام مرجعهم إلى الكتاب والسنة، وإلاّ فما فائدة الفقه والفهم والميزان إن لم تجعل حَكَماً وملاذاً ومرجعاً؟!.
ولذلك أوليت عناية كبيرة بهذه الدراسة خلال هذه السنوات، ولم أستعجل في نشرها، بل عرضتها في أكثر من ندوة علمية، حيث عرضتها في الندوة العلمية لكلية الشريعة والقانون بجامعة قطر في 29 جمادى الأولى 1416هـ الموافق 24 أكتوبر/ تشرين أول 1995، وحضرها عدد كبير من أهل الفقه والفكر وعلى رأسهم فضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي، ونالت استحسانهم وتأييدهم، فقال العلامة القرضاوي: "المحاضرة تقوم على تقنين القواعد، والأحكام الكلية التي يحتكم إليها، ووضع الموازين لكل باب من أبواب الفقه".
وقبل ذلك ألقيتها محاضرة علمية في صيف عام 1990 في المركز الإسلامي بجامعة أكسفورد على عدد من الباحثين والمفكرين. ثم ألقيتها في 17 أغسطس/ آب 2003 بالموصل الحدباء (العراق)، وحضرها عدد كبير من العلماء بينهم رئيس رابطة العلماء بالموصل، والمفكرين والأدباء وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل، حيث لم يكتف بالتأييد اللفظي بل أرسل رسالة مفصلة قال فيها: "أهنئكم -أولاً- على محاضرتكم القيمة في رابطة العلماء يوم أمس في محتواها، وأسلوبها.. لقد شدت انتباه كل الموجودين حتى آخر لحظة.. وقدمت شيئاً جديداً غير ما اعتاده الناس عبر معظم المحاضرات.. داعياً الله سبحانه أن يزيدكم عطاءً وإبداعاً على الجبهات العديدة التي تجاهدون فيها..".
ثم أرسل إليّ رسالة أخرى فذكر فيها: أنه لم تشدّه محاضرة بقوة عالية، وانجذاب كبير سوى محاضرتين: "الأولى: محاضرة العالمة المفسرة الدكتورة بنت الشاطئ، حيث تحدثت فيها عن التفسير البياني في محاضرة رائعة بجامعة بغداد قبل أكثر من ربع قرن، والمحاضرة الثانية التي جذبتني جذباً وشدّت انتباه الحاضرين إليها، واستفدنا منها منهجاً جديداً، وفهماً قويماً، وقواعد كلية تساعدنا على الفهم العميق، والفقه الدقيق، هي محاضرتك".
ثم قمت بإعداد عدة دورات للطلبة والباحثين، كانت إحداها في الكويت بعنوان (دورة الميزان) في الفترة (11 - 12) ربيع الأول 1425هـ الموافق (1- 2) مايو/ أيار 2004 حضرها 65 شخصاً لمدة يومين وخصصنا نصف يوم للجانب التطبيقي، فخرج المشاركون مسرورين حتى ألقى أحدهم -وهو الأخ مصعب الرويشد- قصيدة بهذه المناسبة، كان بينها قوله:
وحسدتُ نفسي أنْ جلستُ بقُربكم وسمعتُ منكم ما يزيدُ منافعي
وسألت ربّي أنْ أكون بجنبكم في مجلسٍ بجنان عدْنٍ واسعِ
ذاك الرجاء لمثلكم ومُحبكم قد أسعفتْ دعواتي كلَ مدامعي