حتى مطلع الفجر

13 ابريل 2023
+ الخط -

أتساءل: لو لم يوجد رمضان، وعشنا سنوات وسنوات على نسق واحد من العبادة الروتينية، هل كان ارتباطنا بالله سيستمر بهذه الوتيرة؟ هل كانت أرواحنا ستتجلّى دون أن نتمتّع بالإحساس الرمضاني الذي يشحن أرواحنا بكلّ هذه الروحانية؟ كيف كنّا سنتطهر من دنس نفوسنا؟

حينما تخيّلت هذا شعرت بروحي منهكة، فرمضان واحة روحية يتجدّد فيها الشعور بالله ويشحن أرواحنا المنهكة؛ لرمضان سرّ إلهي يجعلني أشعر بلذّة العبادة كما لا يحدث في غيره من الشهور، وإن كانت نفس العبادة، وإن كان رب رمضان هو ربّ كلّ الشهور. فيه يتجدّد الشعور بالله وحبّه والتقرّب منه وكأنني أمارس العبادة للمرة الأولى، كأنني أصلّي للمرة الأولى، كأنني أمسك بالمصحف للمرّة الأولى، كأنني أصلّي وأصوم للمرّة الأولى...

عشنا طفولتنا نترقب رمضان وكبرنا بمشاعر مختلفة، وصدّرنا للأجيال اللاحقة مشاعر مختلطة لهم. وبرغم تعدّد واختلاف الطقوس الرمضانية في كلّ دولة عربية وإسلامية، إلا أنّ روحانية رمضان لم تذبل أو تنضب، لدرجة أنني سمعت البعض يقول فيها "ليت العام كله رمضان".

وتجيء ليلة القدر، ململمة ملائكة رمضان كلها، فلا يرحل رمضان إلا محمّلاً بأمانينا إلى السماء، تغيّرت الدهور، وتعاقبت العصور، لكن روحانيته وشغف ليلة القدر، الشيء الوحيد الذي لم تخلُ منها كلّ العصور؛ ففي طفولتي كنت أسمع أنّ ليلة السابع والعشرين من رمضان هي ليلة القدر، وأجمع كلّ أحلامي الصغيرة لأرسلها إلى الله، موقنة بأنها ليلة تحقيق المستحيلات، كنت (بالطبع) أنسى ما الذي أدعو به، لكنني أؤمن بأنّ الله حقّق لي ما يفوقها، وأكرمني بأفراح وبهجات فاقت مستوى أحلامي وخيالاتي الجميلة.

كبرت قليلاً... قيل لي إنها ليلة مجهولة تأتي في العشر الأواخر، ومن المرجّح أنها في الليالي الوترية، تأتي خلسة كي لا يظفر بها إلا من ترقبها بإخلاص، لها أمارات واختبارات وصفات، وكنت أترقبها وأؤجل كلّ مناجاتي لأظفر بها، لكنني اليوم أجد ليلة القدر كثيراً، أو ربما هي من تراقبني... فقد أيقنت مؤخراً أنّ ليلة القدر الحقيقية هي شعور وجداني عميق، هي تجليات روحانية، لو تعمّقت فيها ودعوت الله خلالها بصدق لتحققت كل أمنياتي، لذا دوماً أدعو "اللهم قربني إليك".

شهر رمضان واحة روحية يتجدّد فيها الشعور بالله ويشحن أرواحنا المنهكة

ما زلت أتوق إلى ليلة قدر، أعيشها في كلّ يوم بمشاعر خصبة، ويقين بأنّ ربي لم ولن يخذلني، بإحساس شفاف بأن الله عزّ وجل، يحفني دوماً بملائكته من كلّ جانب، وكلّي إيمان بأنّ كلّ ليلة، بل كلّ لحظة أناجي الله فيها بإخلاص ويقين هي ليلة قدر وخلق الأقدار، وسيحقّق الله فيها أحلامي التي لن تنتهي إلا ببزوغ فجر منيِّتي، لم أعد أقيم تلك الليالي من أجل تلك الأمنيات والأماني، بل شوقاً وتوّقاً للحديث مع مولاي بطمأنينة حتى مطلع الفجر:

لم أتعمد النجوى

وأرسم ظل أحزاني 

وأوزاري

أنا المنفيُّ بين ضرائب الأرواح

داخل حفرة للوقت

خارج وردة للعشق 

أخشى الله -حين يقول لي أخطأت-

لا أخشى من النارِ

(عبدالعزيز المقالح)