ثورة ما بعد الحداثة أم انقلاب أطاح الديمقراطية؟
في 28 فبراير/شباط 1997، استيقظت تركيا على حدث غيّر مسار الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية في البلاد لأعوام قادمة، إذ شهدت الجمهورية التركية انقلاباً عسكرياً أطاح حكومة حزب الرفاه الإسلامي ومرشحه رئيس الوزراء نجم الدين أربكان، وانتهت على أثره الحكومة الائتلافية. وكان المؤيدون الأوائل للحدث آنذاك ضباطاً من الجيش التركي يعملون بشكل سري، بهدف "حماية المبادئ العلمانية والأتاتوركية في الدولة".
حينها، وصف البعض الانقلاب بأنه انقلاب "ما بعد الحداثة"، لأنه تمّ دون قتال دموي من خلال إجبار رئيس الحكومة، نجم الدين أربكان، على التوقيع على قائمة ِالمطالبِ التي أرداها الجيش والأحزاب الأخرى التي كانت فاعلة في الحياة السياسية التركية آنذاك.
وكان من بين الأوامر والشروط التي وضعتها قيادة الجيش إبعاد الصبغة الدينية الإسلامية عن الحياة العامة ومؤسسات الدولة، وتمّ على أثر ذلك إغلاق مدارس إمام خطيب والكثير من المؤسسات الدينية، كما تمّ نص قانون لمنع الحجاب في الجامعات والبرلمان ومؤسسات الدولة .
كان نجم الدين أربكان من رموز التيارات الإسلامية على صعيد الشرق الأوسط ورأس الحركة الإسلامية في الجمهورية التركية علمانية المعالم دستورياً، وكان قد بدأ حياته السياسية بشكل رسمي عندما أسس حزب النظام الوطني متأثراً بميراث الدولة العثمانية وأيديولوجيتها الإسلامية. وشكلت هذه الانطلاقة لنجم الدين أربكان الأمل لسياسيين كثر شجعتهم أيضاً على الدخول إلى مضمار السباق السياسي التركي وفقاً لأفكار أربكان، وكان من بين هؤلاء رجب طيب أردوغان وأصدقاؤه الذين شكلوا حزب العدالة والتنمية في مطلع القرن الواحد والعشرين.
لم يصمد حزب النظام الوطني أكثر من عامين حتى صدر قرار حلّه بتهمة التآمر ضد العلمانية، فقام أربكان مرّة أخرى بتأسيس حزب السلامة عام 1972. ومن هنا، كانت الانطلاقة السياسية لرجب طيب أردوغان، حيث انتُخب أميناً عاماً لشعبة الشباب في إسطنبول، وقد استمرّ هذا الحزب حتى عام 1980، إلى أن تمّ حظر جميع الأحزاب السياسية في البلاد على يد قيادة الجيش التي علّقت الحياة السياسية آنذاك.
مع دخول عام 2017 تمكن العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية من تغيير نظام الحكم إلى الشكل الرئاسي ليسيطرا على مفاصل الدولة كليا
لم يثن الإغلاق المتكرّر والمقصود من قبل الجيش للأحزاب ذات الصبغة الإسلامية عزيمة أربكان وأصدقائه، بل دفعه ذلك ليعاود المحاولة بأحزاب جديدة تحمل أسماء مغايرة ولكن بفكر وأيديولوجية إسلاميين ثابتين، حيث شكّل مجدّدا حزب الرفاه الذي استطاع أن يحقق فوزاً كبيراً في البرلمان التركي معبّراً عن رغبة شريحة واسعة من الشعب التركي ذي الفكر والتوّجه الإسلاميين. ولكن كانت هناك دائماً مجموعات في الجيش ومؤسسات الدولة تقف في وجه أربكان لمنع تحقيق أهدافه ومشاريعه السياسية، فتكرّر السيناريو مجدداً، وتدخل الجيش ضارباً إرادة الشعب ومفاهيم الديمقراطية عرض الحائط، حيث أجبر الجيش أربكان على الاستقالة مطيحاً حكومته المنتخبة.
وبعد اجتماع قيادات الجيش التي نصبت نفسها حامية لمبادئ العلمانية التركية ولمبادئ الكمالية مع الحزب الجمهوري ومع رؤساء الجامعات وبعض القضاة، حيث تمّ التحريض على حكومة أربكان بتهمة تهديد أسس النظام الجمهوري العلماني، وبعد العديد من التظاهرات المناصرة لأربكان، أجبر مجلس الأمن القومي أربكان على التوقيع على قرارت تهدف الى حماية المبادئ العلمانية، وكان من بين هذه القرارات حظر الحجاب في الجامعات وإغلاق مدارس الأئمة والخطباء. وفي أعقاب هذه المذكرة والقرارات، قدّم أربكان استقالته، وتمّ إغلاق حزبه في عام 1998، وتم منعه من مزاولة السياسة خمس سنوات، إلا أنّ دعوة أربكان وأصدقائه استمرت عن طريق حزب الفضيلة، الذي كان أردوغان أحد أعلامه، حيث تعرّض للسجن بعد قراءته قصيدة إسلامية قومية، اتُّهم على أثرها بالتحريض على الفتنة ومُنع من ممارسة السياسة.
في عام 2001، تم إغلاق حزب الفضيلة بعد دخول النائبة عنه مروة قاوقجي البرلمان مرتدية الحجاب، ما أثار سخط نواب البرلمان العلمانيين، ثم بعد سنوات، تصدّر المشهد طلاب نجم الدين ورفاقه في حزب العدالة والتنمية واكتسحوا الانتخابات عام 2002، حيث أكمل هذا الحزب المسيرة السياسية وفقاً لنهج ورؤية مكنّاهم من السيطرة على الحكم تدريجياً حتى استطاعوا عام 2012 تشكيل هيئة بموافقة البرلمان للبحث في الانقلابات العسكرية، وعلى رأسها انقلاب 28 فبراير/ شباط، ليجرى التحقيق في تفاصيله وملابساته.
ومع دخول عام 2017، تمكن العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية من تغيير نظام الحكم إلى الشكل الرئاسي، ليسيطر العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية على مفاصل الدولة كليا.