انتقام اللغة

11 اغسطس 2023
+ الخط -

"إعلانات لن تستطيع أن تراها مرة أخرى".

 لفت العنوان نظري، فنظرت، وإذ بها مجموعة من الإعلانات والملصقات القديمة التي تعود لفترة كان التلفزيون متفلتاً فيها من أيّة قوانين ناظمة تؤطّر ما يُفترض أن يُعرض على المشاهد. كان ذلك عصر بدايات هذا الاختراع الجديد.

السمة الجامعة لتلك الإعلانات أنّها كانت، إمّا تحقيريه للمرأة وما يمكن أن يكون دورها في الحياة، أو تمييزية ضد من كان يُطلق عليهم السود أو الزنوج أو العبيد، على أساس لون البشرة، أو إعلانات عن أسلحة تُباع كما يُباع أيّ شيء عادي، لا بل حتى يروّج لها كسلعة طبيعية تكاد تكون  مسالمة أو إعلانات للترويج لأنواع من الأدوية "اللطيفة والفعالة"، فيما نحن نعلم اليوم أنها مصنّفة كمخدرات وتتسبّب في الإدمان مثل "التريمادول".

الفارق الزمني ما بين الوقت الذي كانت فيه تلك الإعلانات مقبولة اجتماعياً، وبالتالي مسموحاً بها، وما بين تاريخ منعها من البثّ، كان حافلاً بالتحرّكات الاجتماعية والسياسية التي أدّت، عبر إقرار قوانين مناهضة للعنصرية والتمييز بين البشر على أساس لونهم، جنسهم، عرقهم أو دينهم، أو ما يضرّ بالأمن أو الصحة العامة، إلى نبذ هذا النوع من الترويج، ولو اقتصر الأمر على مجرّد ملصق أو إعلان.

ومنذ ذلك الوقت، عرفت مختلف المجتمعات، خاصة الأميركية منها والأوروبية، تدقيقاً متزايداً لكلّ ما يروّج له في الفسحة العامة. ثم ما لبث أن تعدّى التدقيق بالسلع إلى تفحص الأفكار كما في مواضيع العنصرية. كان ذلك حصيلة التطوّر الطبيعي لتلك المجتمعات. كان صادقاً وفعالاً إلى حدّ ما، على ما أظن.

شهد لبنان حملة شغلت وسائل الإعلام لتغيير اسم حلوى لبنانية رائجة، واسمها التجاري "راس العبد"، إلى اسم لا يخدش أصحاب البشرة السمراء الغامقة "الطربوش"

لكن، وفي العقود الأخيرة، أخذ هذا الميل منحى غير مستحب، بتحوّله إلى نوع من موضة للتصدير، يُستبعد من لا يتبعها، ولو بأبسط الصور، من دوائر القبول الاجتماعي أولاً، ثم من احتمالات التمويل لعمل فكري أو فني أو نشاط اجتماعي، إن كان يتوّسم ذلك من جهة دولية ما. 

وشيئاً فشيئاً، تحوّلت الفكرة الأساسية النبيلة إلى سلوك ببغائي أكاد أقول، خصوصاً في البيئات التي لم تنتجها كخلاصة شفائية اجتماعية نتيجة أحداث أورثتها كوارث، كما حصل مثلاً في الولايات المتحدة بما يخصّ الأفارقة خاصة، وفترة استعبادهم الرهيبة، إلى درجة خوض نقاش حول منع عرض فيلم "ذهب مع الريح" كونه مليئا بمثل تلك التعابير التي كانت "طبيعية" حينها، أو في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة ما بعد ألمانيا النازية وما فعلته باليهود والغجر والأعراق الأخرى التي اعتبرتها متدنية مقارنة بالعرق الآري. 

وبالطبع، أسقطت الفكرة علينا في السنوات العشر الماضية، على شكل موضة تنشرها وتساهم في تعميمها، جمعيات وأفراد يشخصون، كما الكثير من اللبنانيين، إلى الخارج لتقليده، في محاولة دائمة وحزينة، لصنع هوية تحظى بالرضى عن النفس، وقبول من يعتبرهم هؤلاء مثلا أعلى، في غياب القدرة على ابتكار واحدة بمكوّنات وطنية جامعة. 

هكذا، وكأنّ لبنان ليس بلدا يعاني من العنصرية، لا بل كأنه لا يعاني من نوع فريد منها اسمه الطائفية، شهدنا حملة شغلت وسائل الإعلام لتغيير اسم حلوى لبنانية رائجة كنّا نلتهمها في طفولتنا، واسمها التجاري "راس العبد"، إلى اسم لا يخدش أصحاب البشرة السمراء الغامقة.

حسناً، كان جهداً مشكورا لتغيير اسم الماركة إلى اسم آخر هو "الطربوش". لكن، ما الذي تغيّر عملياً بالنسبة لمئات اللبنانيين "السمر" أبناء زيجات المغتربين بأفريقيات؟

أعرف أنّ أعداداً كبيرة منهم تعيش في الجنوب اللبناني الذي هاجر الكثير من أبنائه منذ عقود إلى أفريقيا للعمل. ثم عاد بعضهم مع أولاد من زواجه بسيدة من تلك البلاد.  أما بعضهم الآخر، فقد سارع إلى إرسال بناته، خاصة إلى قريته الأم، وذلك ما إن يبلغن، خوفاً عليهن من عادات تلك البلاد التي يصفونها بأنّها غير مناسبة لعاداتنا وتقاليدنا. 

هكذا وجدت معظم تلك الفتيات أنفسهن في محيط يُعايرهن بسبب لون بشرتهن، ويلقبن فيه ببنات ال "عبدة". لكنهن، والشكر لله، لم يكن مضطرات لتجرّع مهانة حلوى "راس العبد" بل تذوقن "الطربوش". كان هذا إنجازاً كبيراً بالفعل! 

أما الطائفية؟ أي التمييز على أساس الطائفة بين مواطن وآخر، والذي وصل إلى حدّ تعطيل المؤسسات بسبب الإصرار على حصص متساوية بين الطوائف، حتى لدى تعيين حراس الأحراج في فضيحة عشناها منذ فترة؟  فلا شيء. اللهم إلا بعض النضالات التي انطفأت ما إن بدأت، كحركة شطب المذهب عن الهوية، أو بعض التظاهرات التي كانت تخترق المشهد العام بين الفينة والفينة في العقود الثلاثة الأخيرة، بنفس الوجوه أكاد أقول، دون أن تتحرّك شعرة في مفرق السلطة القائمة أصلاً على التحاصص الطائفي، لا بل المذهبي. 

لا مموّل لمحاربة الطائفية، مع أنها المرض المحلّي الأشرس والأخطر، والذي لطالما دمّر ولا يزال يدمّر، المجتمع، لا بل الكيان اللبناني شخصياً

بالطبع، فلا مموّل لمحاربة الطائفية، مع أنها المرض المحلّي الأشرس والأخطر، والذي لطالما دمّر ولا يزال يدمّر، المجتمع، لا بل الكيان اللبناني شخصياً.

إذاً، أدى نجاح لافت للحملات أعلاه إلى تبني الفكرة في مجالات أخرى.  هكذا، تلقفت جمعية المعوقين مثلاً هذا الميل، وخاضت حملة شعواء لتغيير مفردة "معوقين" التي صنّفت مهينة، كون البعض يستخدمها في معرض الشتم، إلى "أصحاب الحاجات الخاصة"، ومؤخراً إلى "أصحاب الهمم"! 

ومع أنّ عبارة أصحاب الحاجات الخاصة لا تعبّر برأيي عن وضع أصحاب الإعاقات وحدهم بل عن فئة أوسع، كما أن هناك ألفاظا كثيرة مشابهة تستخدم كشتيمة، وفيها إهانة مثل مفردة مريض أو جاهل أو أمّي، إلا أنّ العبارة اعتمدت، وهنّأ الجميع بعضهم بعضاً.

لكن، وبعيداً عن الحيّز اللفظي، لما تزل الأرصفة إلا فيما ندر، حتى في العاصمة بيروت، غير مزوّدة بأيّة منحدرات تسمح "لأصحاب الحاجات الخاصة" باعتلاء الرصيف بكراسيهم المدولبة مهما كانوا من "أصحاب الهمم". وهذا مجرد مثال، فضلاً عن أنّ بعض اللبنانيين لم يتوّقفوا عن استخدام كلمة "معاق" كشتيمة.

الموضوع الثالث كان ما أشير إليه على أنه مشكلة "تذكير صيغة الجمع" باللغة العربية، ولو كان الجمع بمعظمه من الإناث، ما اعتبرته النساء ظلماً لغوياً. وقد يكون كذلك. لكن ما نتج عن ذلك صيغة، كانت عكس رغبات أصحاب النوايا الحسنة، تطويلاً مرهقاً للنصوص وبالتالي للقارئ. 

هكذا، أخذت أعاني أكثر فأكثر لدى قراءتي مقالة ما (الحمد لله لم تصل الموسى إلى ذقن الروايات) يصرّ كاتبها على استخدام صيغة "المساواة" اللغوية، ما كان يثقل سلاسة القراءة لدرجة النفور أحيانا في النصوص الطويلة. 

هناك اضطهاد للغة باختصار المفردات البليغة إلى استخداماتها السيئة، والاستعاضة عنها بتعابير ملوية الأعناق

سألت نفسي: ألأنني لم أتعوّد هذا التطويل بعد؟ أم لأنّ هذا النوع من التطويل معاكس للبلاغة، وهو ما ترومه اللغة في الأصل؟ 

الأحرى أنّ ما يسبّب الانزعاج هو هذا النوع من "الحرْفّية"، أي التطبيق الحرفي لبعض الأخلاقيات. وهو سلوك متأت غالباً عن الخوف من الخطأ، أو عدم فهم أصل الموضوع أو مجرّد نفاق، ما يُشار إليه بالأجنبية بعبارة politically correct، أي اتباع طريقة نمطية للغاية في التفكير والتعبير والسلوك حرصاً على عدم التسبّب باستياء الجمهور، وبالتالي على صورة المتكلم، خصوصاً عندما يكون الموضوع حسّاساً، أو تكون الفكرة "مستوردة". 

هذا السلوك يحوّل أصحاب النوايا الحسنة إلى مجرّد مقلدين لإيماءات أنتجتها مجتمعات أخرى بسبب مشاكل تخصّها هي، ويحولهم إلى جلادين للغتهم التي عليها أن تستوعب كلّ هذا الحشو.  

هناك اضطهاد للغة باختصار المفردات البليغة إلى استخداماتها السيئة، والاستعاضة عنها بتعابير ملوية الأعناق. 

لكن اللغة معبّرة دائماً، هذه طبيعتها ووظيفتها والشاهد على حيويتها. حتى عندما تتعرّض لهذا الاضطهاد، فهي تعكس ذلك بالركاكة، وهذا هو انتقامها ممن يريدون لي عنقها دون احترام دقتها وصدقها، أو ممن يحملونها مسؤولية ممارساتهم اللغوية/الاجتماعية الخاطئة.

ضحى شمس
ضحى شمس
كاتبة وصحافية لبنانية.

مدونات أخرى