فراشات الذاكرة

05 يوليو 2024
+ الخط -

كان عليّ أن أبلغ الستين من العمر لكي أفهمَ كيف تموتُ الذاكرة، هنا، في بيروت. كيف تصبح وحيداً بعد أن يموت من تعرفهم، سواء أكانوا أصدقاء أم معارف أم حتى مشاهير ينتمون إلى مرحلةِ شبابك.

تُنسى المدن كلّما نُسي تاريخها، تماماً كالناس. وهنا، في هذه المدينة لا يصمدُ تاريخٌ في الذاكرة إلّا إن كان مُوغلاً في القدم لدرجةِ أنّ أحداً لا يعترضُ على صحّةِ روايته.

والبشرُ كالمدن، سوف نُنسى في يومٍ، حين لا يعود هناك من يتذكّر مرورنا في هذه الحياة. أليس من أجل هذا يتزوّج الناس وينجبون؟ أنا أيضًا، كلّما فقدتُ إنساناً ممّن عايشتهم حتى هذا العمر، أحسست أنّ مرحلةً تنحسر وتتضاءل مساحتها في الذاكرة، تماماً كما تجفُّ بقعةُ ماء، أو بركة صغيرة، حين لا ترفدها تلك الذاكرة بما يُحافظُ على مستوى المياه فيها.

في لبنان، نكتشفُ عندما نكبر أنّ كتبَ التاريخ التي درسناها هي في الواقع مجرّد مؤلفات. لا ذاكرة مشتركة متّفق عليها. ما أسهل ان تُخترع لنا واحدة إذاً.

يُخبرني والدايَ بأحداثٍ كثيرة عاشاها قبل ولادتنا، في طفولتهما وشبابهما. رواياتهما بتفاصيلها الصغيرة أغنى بما لا يُقاس من كتبِ التاريخ المزيّفة بمعظمها. تاريخٌ مخترعٌ في بعضه، منفوخٌ هنا وممحوٌّ هناك، وفي الحالتين مجبرون على اعتماده للترفّع صفاً، جهلة إجباريين بتاريخنا الحقيقي.

تاريخٌ مخترعٌ في بعضه، منفوخٌ هنا وممحوٌّ هناك، وفي الحالتين مجبرون على اعتماده

وقبل بلوغك الخمسين؟ لا وقت للبحث عن الحقيقة، إلّا إن أجبرتك وظيفة أو حرب أهلية ما على ذلك. حرب لا تذكرها كتب التاريخ للأجيال الجديدة حتى بعد مرور خمسين عاماً. تبحث عن تاريخك متأخراً كثيراً. عندما يصبح لديك وقت، بعد الخمسين.. عندها يكون أوان محاولة التغيير، أو الحماس له قد فات.

البعض يعوّض قليلاً بتنبيه أولاده إلى أنّ ما يدرسوه في الكتب الرسمية ليس صحيحاً. لِمَ ندرسه إذاً يا بابا؟ لكي تنجح في الامتحان يا بني، بعد ذلك انسَ الكتاب وكلَّ ما فيه.

في أيّ بلاد يُقال هذا للتلامذة؟ أنا قالها لي أستاذ التاريخ شخصياً. انظروا إلى هذا الغصن كيف ينمو ملتوياً، مُتشكّكاً في الجذعِ الذي يحمله، في الشجرة، في الغابة، في الوطن، في العالم.

تعتاد أن تنسى. تمرّن الذاكرة على النسيان لكي تستطيع العيش. تكنسُ ما تكرهه، ما تخاف منه، ما تستحي به، تحت سجادةِ اللاوعي. يشتدُّ عضل النسيان ويغلب عضلة الذاكرة. لم يعدْ يسألك عقلك إن كنت ستذكر هذا أو ذاك. أصبح يتصرّف وحده. تفلت من عقال نفسك وتنسى أين ربطت الفرس.

تبدأ أنت الآخر باختراعِ ماضيك. تقول أمّي عندما أخبرها بذكرى من طفولتي: أين؟ متى؟ لا لم يحدث. "هذا في عقلك فقط" كان يقول أبي في أحيانٍ أخرى. لا أذكر شيئاً. لم أعد أذكر إلّا القليل. عندما تتمرّن ذاكرتك على نسيان ما رأيته وعشته في حربٍ التهمت طفولتك، من الصعب أن تعود فتتذكّر بصورة صحيحة. غالباً أنت تؤلّف شيئاً لكي تملأَ الفراغَ بالكلماتِ والصور والأفكار المناسبة، للتأقلم والاستمرار. لتستطيع أن تتفتّح كبرعمٍ فوق كثبانِ صحراءَ قاحلة، أو في مستنقعِ رمالٍ متحركة. كطير لم ينبت زغبه بعد، في عشٍّ غير آمن من العواصف والجوارح. في غابةٍ، لكنها خالية من الشجر.

تعتاد أن تنسى. تمرّن الذاكرة على النسيان لكي تستطيع العيش

أعزّي نفسي بالقول إنّ هذا العالم الخرب الذي تتساقط أطرافه ويتعفن قلبه، لم يعد يعنيني. هي سنوات قليلة وأودّعه بإذنٍ من الرب. لو كنت أصغر بقليل لوجدت الطاقة على الغضب، والقول إنّي سأغيّر ما استطعت فيه، وسيصبح أفضل. 

لكن، عندما تكون في الستين، تقاعدت واشتريت بيتاً وأمّلت نفسك بأيّامٍ حلوة مع والديك اللذين منّ الله عليك بإبقائهما على قيد الحياة وبكامل صحتهما، ثم سحبت تقاعدك من صندوق الضمان وأودعته المصرف، قائلاً لنفسك: لقد جلت وتجولت وشبعت من الترحال ولا أودّ سوى البقاء في بيتي لأقرأ وأرتاح، وقد أكتب قليلاً. وإذا بكلّ العالم ينهار. لا عالمك فقط، بل العالم كلّه. أقفلتِ الأرض أبوابها، وأنت في بلدٍ مثل لبنان. كيف ستتحّمل؟ لا رغبة في الرحيل ولا أمل بالتغيير أو العيش طويلاً لترى أيّاماً أفضل.

نجح كلّ ما حدث لنا في جعلي أبتعدُ عن الحياة العامة وشؤونها، بعد المشاهد على شاشة التلفزيون. كنتُ أغضب في البداية، كنتُ آمل، أتظاهر وأهتف وأكتب، ثم؟ لا شيء تغيّر. هكذا أخذت أنظر ولا يعنيني. دربت نفسي على ذلك بصعوبة. العجز يجعلك تبرد، تنظر بعيونٍ زجاجيةٍ إلى ما يحدث. كما لو كان أحد أطرافك يحترق وأنت لا تشعر بشيء.

العجز يجعلك تبرد، تنظر بعيونٍ زجاجيةٍ إلى ما يحدث. كما لو كان أحد أطرافك يحترق وأنت لا تشعر بشيء

لكن جاءت غزّة من حيث لا أدري. وهلة من الأمل أشاعتها تلك المشاهد الخرافية لطيورٍ فلسطينية تحلّق عالياً فتجتاز كلّ الحواجز التي زرعَ المحتل في وعينا استحالةَ عبورها. مقاومون أذكياء مبدعون وشجعان، كانوا يطيرون حرفياً في سماءِ بلادهم المحتلة لينقضّوا على أعدائهم اللاهين بغتة.

وهلة من الأمل، صحيح. لكن، بعدها كشّر العالم عن أنيابه. وهلة أعادت إحيائي بضعة أيام، لتعاودَ قتلي كلّ يومٍ منذ تسعة أشهر أمام الشاشاتِ العاجزة عن فعلِ شيءٍ. هناك شيء ما يتغيّر في العالم، صحيح، لكنه بطيء لا يفي بحاجة المستغيثين من دون أن ينجدهم فعلياً أحد.

ذاكرتي اليوم مثخنة بالجراح، لكنها لدهشتي، عادت لتُخرجَ من باطنها أحداثاً كما لو كانت قد اتخذت قراراً بأن تُقاوم.

وحين آوي إلى فراشي متعبةَ القلب من الغضبِ والحزن، ومن هذا الإحساس بتخلّي العالم عن إنسانيته، لا أدري من أين تخرج تلك الفراشات المحلّقة في فضاء غزّة، لتطيرَ في سماء أحلامي.

ربّما لهذا قالت لي أمّي عندما نامت ذلك اليوم بجانبي، إنّني كنت أبتسم.

ضحى شمس
ضحى شمس
كاتبة وصحافية لبنانية.

مدونات أخرى