عن القبارصة واللبنانيين

12 يوليو 2024
+ الخط -

في العام 1996، وفي عزِّ عمليةِ "عناقيد الغضب"، الاسم الفني لعدوان إسرائيل يومها على لبنان، أطْلَلتُ ذات صباحٍ ربيعي من نافذتي، رانيةً إلى السماء، فإذا بي أرى مشهداً غريباً. 

كنتُ قد استأجرتُ شقةً في بيروت، غير بعيدة عن مقرِّ الجريدة التي كنت أعمل فيها، محققّةً في أيّام السلم، ومراسلةَ حربٍ في أيّام الحروب. وهذه الأخيرة عشت أربعة منها منذ عودتي منتصف التسعينيات إلى بلدي.

ماذا رأيت؟ طائرة ركاب مدنية تعود لشركة "إير فرانس" على ما أذكر، تعبرُ السماء فوقنا بكلِّ ثقةٍ، متجهةً إلى مطار بيروت الدولي القريب، في حين كانت مروحية أباتشي إسرائيلية حربية تحلّق غير بعيدة عنها، متريثةً، تارة هنا وتارةً هناك، كما لو كانت متحينة قصف مكانٍ لم تحدّده بعد، أو تراقب مستطلعةً ما قد تقصفه بعد قليل. 

كان المشهدُ لا يصدّق: كيف من الممكن أن تستمر حركة الطيران المدني بصورة عادية في حين أنّ البلاد تتعرّض لعدوان إسرائيلي يرتكز كثيرًا، لا بل رئيسيًّا، على سلاحِ الجو؟ كيف من الممكن لإدارةِ المطار أن تكون لامبالية إلى هذه الدرجة بسلامةِ الركاب؟

لا لم يكن اليوم الأوّل للعدوان لكي نلتمس العذر للمسؤولين. كان قد مضى على بدايته بضعة أيام. وفكرت: تُرى من ينظّم السير في تلك السماء الخطرة؟ كيف يتجاور الطيران المدني، مع طائراتِ العدو الحربية المُجتاحة لفضائنا، والمتجوّلة بحريّة تحسدها عليها سيارات كنت أراها متوقفةً تحتها تمامًا في شوارع العاصمة في زحمةِ سيرٍ خانقة، صارت مميتة حرفيًّا، لو أخدنا بعين الاعتبار نيّات الطائرات العدوّة؟

 قبرص أشبه بلبنان من حيث غياب الندية مع القوى العظمى. أي؟ لا ندية ولا استقلال حقيقي 

وبما أنّي كنت محققّة، قرّرت التحقّق مما يحصل في المطار. هل هناك قرار باستئناف حركة الملاحة الجوية رغم كلّ شيء؟ لم يبد لي الأمر معقولًا. من قد يغامر بشيءٍ كهذا؟ بدت لي كلّ الاحتمالات سوريالية.

هكذا، قمتُ بدخولِ المطار، وبعد مناوراتٍ لتشتيتِ انتباه الموظف عن الغرض الأساسي لزيارتي لئلا يحذر ويمنعني من الدخول، نجحتُ في استدراجه ليريني غرف الرادارات وكيف تعمل؟ وما إن وصلنا إليها حتى ازدادَ الوضع سوريالية.

كانت قاعة الرادارات الواسعة خاليةً تماماً من أيّ رادار أو موظف لتأمينِ الملاحة الجويّة المدنية!

التفتُّ إلى الموظف اللطيف الذي رافقني متسائلةً ببراءةٍ مصطنعةٍ لكيلا أخيفه: ولكن أين هي الرادارات؟ فقال (ضاحكاً) إنّها نُهِبَتْ خلال الحرب الأهلية (التي كانت قد انتهت منذ سبع سنوات يومها) وإنّ "الدولة" لم تشتر بعد بديلًا لها.

إذًا، والسؤال يفرض نفسه: كيف تُؤمّن عدم اصطدام الطائرات الحربية بالمدنية ونحن في حربٍ؟ وهل هذا معقول؟ هل يستمر الطيران المدني على عماه، في حركته، بالرغم من احتلالِ طائراتِ العدو الحربية سماء لبنان؟ أم أنّ الطائرات الإسرائيلية تتجنّب الطائرات المدنية وهذا سوريالي أكثر وغير منطقي؟

يجيبني: بالطبع لا. نحن نتصل بمطار قبرص، وهم يعلموننا بأيّ خط آمن بين الخطوطِ الجويّة لسلوكه وتفادي الطيران المعادي.

قبرص هي في الواقع مرصد ضخم: لبريطانيا أولاً، وللناتو عامة. برج مراقبة يرى ويُسمع من خلاله كلّ ما يدور في منطقتنا

أيْ إنّ رادار مطار بيروت الحقيقي والوحيد كان الهاتف الدولي مع قبرص! يضحك الموظف مرّة أخرى، ويستدرك قائلاً: آه. كان ذلك بداية العدوان، أيْ قبل أن يكتشف الإسرائيليون الأمر، وحين فعلوا، غضبوا كثيراً وهدّدوا القبارصة "بالتعامل" معهم إن استمروا بإخبارِ اللبنانيين عن حركةِ الطيران الإسرائيلي خلال الحرب.

حسناً، وماذا فعل اللبنانيون؟ يقول: أصبح تفادي الطيران الإسرائيلي قائمًا على توجيهاتٍ من دون تحديد للخطوط الجويّة غير الآمنة. بمعنى؟ أخذ المراقبون القبارصة يوجّهون الطيران المدني اللبناني على طريقةِ سائق التاكسي: اتجه إلى اليمين قليلًا، إلى اليسار الآن.. ارتفع بعض الشيء، والآن انخفض والتف قليلًا بعد باتجاه اليسار.. إلخ!

تذكرت هذا التحقيق السوريالي حين عادت قبرص لتدخل اهتمامات اللبنانيين من بوابةِ العلاقة العدائية بين لبنان وإسرائيل. فهذه الجزيرة الصغيرة المُنقسمة أصلًا، والتي يحكمها منذ بداية "استقلالها" الشكلي، وجود بريطاني استخباري وقاعدتان عسكريتان: ديكليا وأكروتيري، تحتلان ثلاثة في المئة من مساحةِ أراضيها، وتتمتعان باستقلاليةٍ تامةٍ ونظامٍ قانوني خاص بهما، لا بل بشرطةٍ ومحاكم خاصة منفصلة عن تلك القائمة في قبرص أو بريطانيا، هي في الحقيقة غير مسالمة حين تحتاج القوى المتحكّمة فيها إلى ذلك. 

فبسبب القاعدتين أعلاه، فإنّ قبرص هي في الواقع مرصد ضخم: لبريطانيا أولاً، وللناتو عامة. برج مراقبة يرى ويُسمع من خلاله كلّ ما يدور في منطقتنا. كان ذلك قبل المناورات العسكرية التي تُحاكي اجتياح لبنان، والتي أجروها مؤخراً بالتعاون مع إسرائيل، واستتبعت تحذير المقاومة اللبنانية للقبارصة.

هذا تصرّف عدواني؟ صحيح، لكنه ليس قبرصياً في الجوهر، بل بريطاني وإسرائيليّ، وفي الملخص أطلسيّ. 

فهل يملك القبارصة زمام أمورهم حتى نقول إنّهم يقومون بسلوكٍ معاد؟ إنّ قبرص أشبه بلبنان من حيث غياب الندية مع القوى العظمى. أي؟ لا ندية ولا استقلال حقيقي والكثير ممن يحزنون في البلدين.

لذا لا أظنّ أنّ المقاومة اللبنانية كانت تهدّد القبارصة فعلياً، بل من يحكمهم ويتحكّم فيهم من خلف الستار عبر وجوده الثقيل المتمثّل بتلك القواعد التي يُوصف وضعها القانوني "بالسيادي التام"، أي التي لا سلطة للقبارصة عليها، والتي تنطلق منها معظم عمليات القوات البريطانية الموجودة فيها، ومنها انطلقت مؤخرًا هجماتهم ضدّ الحوثيين في إطار العدوان على غزّة. وقد استتبع ذلك تظاهرات "حركة السلام القبرصي" أمام تلك القواعد للتنديد بذلك التصرّف الذي يهدّد سلام الجزيرة الصغيرة.

صحيح أنّ القبارصة هم في الواجهة، لكنّهم واجهة، مجرّد صندوق بريد. وإن أردنا أن نصف فعلياً علاقة اللبنانيين بالقبارصة، فإنّي أميل إلى تشبيهها بالعلاقة بين الموظفين خلال عدوان "عناقيد الغضب": القبرصي في مطار لارنكا واللبناني في مطار بيروت، يقدّر كلٌّ منهما ظروف الآخر ويتعاونان لأجل سلامة الركاب، خفيةً عن المتنمرين اللذين، إليهما في الحقيقة، وجّهت المقاومة اللبنانية رسائلها التحذيرية.

ضحى شمس
ضحى شمس
كاتبة وصحافية لبنانية.

مدونات أخرى