"مواطن ترانزيت"

21 يونيو 2024
+ الخط -

"انتحار قاصر بعد اغتصابه". "مقتل تلميذة بعد سقوطها من فجوة في باص مدرسي". "بالصورة: عثر عليه مشنوقاً وسط الطريق في زحلة". "دراجات نارية في طرابلس تطارد سيارات الشرطة وتعتدي على العناصر وتستعيد الدراجات المصادرة". "٢١ ألفاً ألغوا اشتراكاتهم في كهرباء لبنان". "في وضح النهار: قبضاي يقص سور حرش بيروت الحديدي، يبيعه بالكيلو ثم يفتتح شباكاً في الفجوة التي أحدثها لبيع القهوة والأراكيل". "محاولة انتحار على جسر الطيونة". "محاولة انتحار على سد القرعون". "إخلاء مبنى وزارة الشباب والرياضة بعد ظهور تشققات في المبنى". "سائق أوبر يصطحب سيدة من عملها ويغتصبها". "مواجهة بين شبان وقوى الأمن في طريق الجديدة على خلفية حجز الدراجات المخالفة (مرة أخرى لكن في العاصمة) حيث تم الاعتداء على العناصر واستعادة الدراجات المصادرة".

تكرُّ شريطَ الأخبار المحليّة في الصباح زاعماً أنّك تريدُ الاهتمامَ، بعد طولِ إهمالٍ، بما يحصل تحت أنفك، فلا تعثر إلّا على ما "اعتدنا عليه" من مظاهر انهيار الدولة وتفكّك المجتمع.

"أخبار متفرقة" عنوانها، لكنّها فعلياً إشارات خطرة لا تنفك تُومضُ في كلِّ مكانٍ على هذه الجغرافيا الملعونة. نداءات استغاثة صامتة، يبثّها المجتمع المُنهك تحت تلالٍ من الهمومِ المُتوالدة بعضها من بعضها الآخر. همومٌ تتناسلُ بسرعةٍ مذهلة كما تفعل البكتيريا الشديدة العدوى، لكن تكرارها أصبح له مذاق الوضع "الطبيعي".

ليس هناك فراغ في الحياة وإن كانت حياة دول: إمّا أن تتقدّم، وإمّا أن تتراجع، لا مجال للمكوث في مكانك

تنقرُ على فيديو لخبرِ الدراجات النارية التي تنمرت في طرابلس على شرطةِ السير، فتشاهدُ السيارة الأمنية تسير محاصرةً من الجهتين، بسربٍ من الدراجات النارية، يمتطي كلّ واحدة منها راكبان، ما إن يُحاذيا سيارة الشرطة، حتى ينحني الراكب الخلفي لينقرَ بعنفٍ على الشباك المغلق على العناصر، ثم يشهر إصبعه الوسطى وهو يصيحُ بكلِّ ما يخطر ببالك من سبابٍ للدولة، ومن "أنجبها"، من كبيرها إلى صغيرها.

أمّا حين تنقرُ على خبرِ الرجل الذي عُثِرَ عليه مشنوقاً "وسط الطريق" في مدينة زحلة، فتجد صورة لرجلٍ مشنوق أسفل عمود الكهرباء وسط طريقٍ رئيسة في وضح النهار، وليس كما تصوّرته متدلياً من أعلى العمود. يبدو أنّ الرجل عُلّق هناك، ولم يشنق نفسه، لم ينتحر. من الواضح أنّه قتل في مكانٍ آخر ثم عُلِّق هنا، ربّما للعبرة، أو شفاء غلّ، أو ربّما الوفاء بوعيدٍ ما.

لكن، في الخبرِ الثالث، كيف تسقط تلميذة من فجوةٍ في أرضيةِ فان لنقل الركاب؟ لا بد أنّه كان مهترئاً لتلك الدرجة التي لم يحتمل فيها وزن الطلاب داخله. لا صيانة، ولا مال للصيانة. ماذا حدث للصغيرة؟ لم يقل الخبر شيئاً. ماذا حدث لصاحب الفان؟ لم نعرف. على الأرجح أنّ الطلاب استقلوه في اليومِ التالي. ليس لدى أحد هذه الأيام ترف المحاسبة. النقليات الرخيصة مطلوبة بقوة، والرقابة على الآلياتِ معدومة إلّا في مواسم. كما فعلت الشرطة بأصحاب الدراجات النارية الفقراء الذين عادوا فانتقموا منها.

حكومة تتعدّى صلاحياتها حين ترغب، لكنها تجبن عن اتخاذِ أيّ قرار سيادي أمام هجومِ ثعالب المنظمات الدولية

تطالعُ بقيةَ الأخبار لتجد أنّ ما يجمع بينها هو بكلّ بساطة أمر واحد: تحلّل جثة الدولة المستمر لطولِ مكوثها في الفراغ. ليس هناك فراغ في الحياة، وإن كانت حياة دول: إمّا أن تتقدّم، وإمّا أن تتراجع، لا مجال للمكوث في مكانك. أمّا من يسقط في الفراغ؟ فهو يسقط في العدم.

ونحن هناك. سنتان من دون رئيس جمهورية، والحياة تبدو كما لو كانت تُكمل مسيرها. عادي. سنتان في ظلِّ حكومةِ تصريف أعمال، لا تُصرّف إلّا ما يُناسب الأثرياء وذوي القوة. حكومة جبانة، متبلدة الإحساس، خانعة، متحيّزة. حكومة تتعدّى صلاحياتها حين ترغب، لكنها تجبن عن اتخاذِ أيّ قرارٍ سياديٍّ أمام هجومِ ثعالبِ المنظّمات الدولية.

يُضحكك فيديو رئيس الحكومة يقبّل، بدلاً من رئيسة الحكومة الإيطالية الزائرة، امرأةً مجهولة نزلت قبلها من الطائرة، وقد تكون مساعدتها! حسناً، صحيح أنّ المرأتين شقراوان، ولكن هل هذا مقبول أن يخطئ بالتعرّف إلى نظيرته؟ تحبك النكتة لدى تصويره لاحقاً يقبّل بلهفة المبعوث الأميركي الزائر في المطار. يعلّق أحد الظرفاء: الحمد لله أنّه لم يقبّل الطائرة!

ما الذي تبقى؟ مصرف مركزي يصرّف أعمال حاكمه السابق الذي يبدو حيناً متهماً خطيراً، وهو كذلك، وتارة بريئاً لم يفهمه أحد. ماذا عن الكهرباء الممنوعة من الصرف؟ مشاريع تقدّمت بها دول متعدّدة صديقة ونصف صديقة، إمّا لإنتاجِ الطاقة الشمسية وإمّا لبناء معامل. لكن الكهرباء ممنوعة من الاستقرار بقوّة مصالح كارتيل النفط والمولّدات، أو بسبب السياسة، بمعنى أنّ مصدر الغاز الممكن لمعامل توليد الطاقة هو الغاز الفلسطيني المحتل، والمتسلّل عبر مصر إلى دولٍ عربية.

يمتازُ لبنان بقربِ البحر من الجبل، والمواطن من الطائرة

انهيار تام أو شبه تام في المؤسّسات. الرقابة على السلامة العامة وصحة المواطن؟ لا يوجد. المؤسّسات الأمنية؟ تحاول البقاء على قيدِ الحياة، ولو شكلياً. 

اليوم يفرغ البلد من شبابه ومواهبه، تماماً كما فرغت قريتي الجبلية من الأجيال الجديدة. التصحّر الديموغرافي تمدّد من الجبالِ إلى الساحل، وبسرعةٍ. فكما تعلم، يمتازُ لبنان بقربِ البحر من الجبل، والمواطن من الطائرة.

لم يكن لبنان أبداً كما هو اليوم: وطناً شكلياً. نوع من مجموعةِ إجراءاتٍ إداريةٍ تضطر إلى اتباعها لتأمينِ مستقبلك في بلادٍ أخرى. أمّا من يرفض اتباع هذه الخريطة، مثلي، فيُوسم بالهبل.

منذ عودتي إلى لبنان بعد إقامةٍ لعقدٍ من الزمن خارجه، كان الناس يعبّرون عن استغرابهم أوّلًا لعودتي، وثانياً لإجابتي بالنفي حين يسألون إن كنت قد عدت، "على الأقل"، بالجنسية الفرنسية. ثمّ كانوا يسألون عن السبب في عدم "الموافقة" على طلبي! أمّا حين كنت أجيبهم بأنّي لم أقدّم طلباً كهذا أصلًا، فلقد كانوا يُذهلون. طبعاً كان ذلك يُضحكني وكنت أُدهش لهذه "البديهية" في عقولهم. لكنّي مع الوقت، أصبحتُ أعترف أنّي كنت كما اعتقدوا بينهم وبين أنفسهم: "حمارة". لأنّي لم أفهم باكراً أنّ بلدي في الحقيقة "وطن ترانزيت"، وأنّ المواطن فيه "مواطن ترانزيت"، تعينه جنسيته اللبنانية على تسيير أموره بانتظار ساعةِ المغادرة إلى جنسيةِ الإقامة الدائمة.

إقامة في غربةٍ تستعصي أكثر فأكثر على أن تصبح وطناً، فيبقى معلّقاً هكذا، كالمشنوقِ وسط الطريق، بين استحالتين.