الكتابة تحميهن
لا يكون الصمت دوماً علامة الرضا، أحياناً يكون علامة الوجع، يكون ضرباً من الخيبة والخوف وعدم الجرأة على المواجهة والقفز والنجاة من الوحل!
نشأنا على مبدأ "صوت المرأة عورة"، وحين تعرفنا على الكتابة اكتشفنا أن قلم المرأة روعة؛ فالقلم هو اللسان الذي يصل حديثه إلى كل مكان، والكتابة أرقى وأقوى سلاح لا يفقد قوته بمرور الزمن؛ فكلمة قد تجلد المجرم أكثر من السوط، وبإمكانها أن تداوي الموجوع أكثر من الترياق.
منذ طفولتي تماهيت مع الكتابة، وحينما لا أجد من يحتضن وجعي، أو يسمع صوتي، ولا من يفهم الأفكار التي تبعثر تركيزي؛ أهرع إلى قلمي، أختبئ وسط دفاتري، أستغيث بأكوام كلماتي، وما أن أبدأ في الكتابة حتى أجد الأفكار تسترسل، والحلول تظهر من تلقاء نفسها، الكتابة تغني عن أشخاص "أفضفض" لهم، أو "أدردش" معهم، تساعدني على فهم نفسي جيداً، ومن ثم القدرة على إيصال أفكاري بشكل واضح للآخرين.
حينما أرى فتيات اليوم أشعر بالتعاطف معهن؛ فقد ترعرعن مع أجهزة إلكترونية، ووسائل تواصل بصرية قد تجر بعضهن إلى هاوية "الابتزاز الإلكتروني" والاكتئاب والدمار
أما في مراهقتي فقد شكّلت الكتابة سلوكاً يومياً، حتى إنني اقتنيت دفتر مذكرات مشترك أتقاسم الكتابة فيه مع أقرب صديقة إليَّ، كنا نلتقي في المدرسة، وكانت إحدانا تأخذ الدفتر معها إلى المنزل وتكتب فيه ما تريد، ثم في اليوم التالي تسلمه للثانية لتقرأ لها، تشعر بها وتشاركها أحداثها المحيرة، وتجيب عن تساؤلاتها، وتكتب -أيضاً- ما يجول بخاطرها، وتسلمه في اليوم التالي للأولى، كانت الكتابة وسيلة تواصلنا، ولعبتنا، وسرنا الجميل، وحمتنا بالفعل من ضغط الشعور بالوحدة والكبت الذي تشعر به الفتيات الحساسات في سن المراهقة عادة، وأفضل وسيلة تفريغ وتعبير وتداوٍ ومقاومة.
حينما أرى فتيات اليوم أشعر بالتعاطف معهن؛ فقد ترعرعن مع أجهزة إلكترونية، ووسائل تواصل بصرية قد تجر بعضهن إلى هاوية "الابتزاز الإلكتروني" والاكتئاب والدمار، صرن يهربن من واقعهن إلى عالم خيالي يزيدهن سخطاً على واقعهن، ويضاعف إحساسهن بالعجز عن التعايش مع المجتمع، التعبير عن ألمهن بدلاً من انشغالهن بكتابة المذكرات وحكاية الخواطر، بالذات مع ارتفاع معدلات العنف ضد الإناث، بحسب إحصائيات الأمم المتحدة.
حينما أحاول تخيّل عالمنا بعد عشرات السنوات أراه مليئاً بالـ"يوتيوبرز" والـ"ميك آب أرتست" والـ"بلوجرات"، خالياً من الكاتبات والأديبات شاعرات وقاصات، وهو ما دفعني لتحمل المسؤولية؛ فأطلقت مشروعاً يهدف لاحتواء الفتيات اليافعات المحبات للكتابة. مشروعي "الكتابة تحميهن" يهدف إلى تدريب الفتيات على الكتابة الإبداعية، التأمل في حياتهن كقصص واقعية يمكن استلهام الكثير من القصص العميقة منها وصياغتها أدبياً بطريقة تؤدي دورها الاجتماعي والأدبي؛ وبهذا نساعد على انتشال الفتيات من دائرة الكبت والعنف إلى الكتابة والأدب والإبداع. فالفتيات كائنات حساسة مرهفة المشاعر، وكثيراً ما يحتجن للتعبير عن ما حدث في دواخلهن ومن حولهن. ثم سنقوم بإصدار كتاب ورقي يجري توزيعه، يحتوي على نصوصهن الأدبية التي سندربهن على صقلها، ليشعرن بوجودهن وذواتهن؛ فالكتابة وجود وحياة وعلاج ناجع.
بهذا يجري تأسيس علاقة مبكرة بين الفتيات والكتابة الإبداعية، والنجاة بهن من إغراء التكنولوجيا والشتات الرقمي، والخواء الثقافي. نتمكّن من تفجير روح المقاومة والتغيير والتعبير عن طريق الكتابة، نزرع الجرأة الأدبية فيهن، لنساعد الفتيات على الخروج من صمتهن وقمعهن، واعتماد الكتابة وسيلة تحرر وتشافٍ ذاتي، ففتيات اليوم أمهات المستقبل، هن الامتداد الحقيقي للإبداع، والجذر الأهم لتأصيله وزرعه للأجيال القادمة، لأن الكتابة تحتويهن وتحميهن.