العربية... لغة الـ"لا" انتماء

23 فبراير 2023
+ الخط -

يقول ابن جني: "إن اللغات كلها ملكات… ويكتسب الإنسان الملكة بتكرار الأفعال". ويؤكد العلم الحديث أنّ تعلم اللغات من أعقد العمليات التي تحدث في الدماغ، حيث يتحتّم على العقل التعامل مع هذا التعقيد بشكلٍ سليم للإلمام بها، وكلّما زادت نسبة إشغال الدماغ، أصبحت وظائفه تعمل بشكلٍ أفضل من السابق؛ فالأشخاص الذين لديهم أكثر من لغة يتمتعّون بذاكرة قويّة يستطيعون من خلالها تذكُر الأسماء والأرقام بسرعة.

نشأنا على أقوال تعظّم اللغة العربية بصفتها لغة الضاد ولغة القرآن ولغة أهل الجنة، وكما قال أحمد شوقي:

إن الذي ملأ اللغات محاسناًجعل الجمال وسرّه في الضادِ

إلا أنّ ما نراه اليوم من اضمحلال في استخدامها يجعل منها تهبط في سلم اللغات الأهم في العالم، حيث يقول غازي القصيبي: "عندما قرّر الصهاينة إنشاء دولة لهم كانت اللغة العبرية لغة ميتة، بعثوها بعثاً من المعاجم واستخدموا مفرداتها حتى أصبحت لغة حية! أما نحن فقد ورثنا أكثر اللغات حياة، فبذلنا أعظم جهد لقتلها".

في وطننا العربي، لم تخلُ دولة من آثار الاستعمار، لذا تجد بقايا لغات مختلطة في المدن العربية بين كلمات إنكليزية وفرنسية وفارسية وتركية وغيرها، بل إنّ اللهجات العربية في معظمها تحتوي على كلمات أصلها ينتمي إلى تلك اللغات لا إلى اللغة العربية، كما تمّ التأقلم مع مفردات كثيرة كما هي، فاستخدام كلمة "تلفون" صار شيئاً طبيعياً بدلاً عن الهاتف، والـ"راديو" بدلاً عن المذياع، ولا يؤثر هذا على لغة الكاتب أو المتحدث، ولا يقلّل البتة من رصانة النص وقيمته، ولعل ما سمّي بالـ"اللغة البيضاء" خير مثال لهذا.

التمكن من لغات الآخرين يفتح أبواباً لمعرفة مجالات عدّة، وليس مجرد ترف أو استعراض و"برستيج"

لكن المؤسف في الأمر هو أنّ الكثير منا (للأسف) لم يعد يستخدم من لغتنا العربية إلا ما هو أقرب إلى العامي، حيث غابت البلاغة والرصانة، وصارت اللغة تفتقر إلى عناصر الجمال فيها وإعجازها، وكأنّ الكثير ممن يتحدثون العربية كلغة أم لهم، لا يفخرون بالانتماء إليها بقدر فخرهم بإتقانهم لغات أخرى والإلمام بها! نرى الكثير من المتحدثين يدخلون كلمات أجنبية ضمن كلامهم، وهم ليسوا بحاجة لإقحامها وسط جملة عربية بحتة، كقول أحدهم مثلاً "شوز" فيما هو يتحدث، بالرغم من بساطة استخدام كلمة "حذاء"، هو يقول ذلك فقط ليفخر بكونه ملّماً ببعض الكلمات الأجنبية، أو لأنّ لسانه تعوّد عليها، وربما لو قابل شخصاً أجنبياً لن يتمكن من محاورته لدقائق معدودة بتلك اللغة!

تستمع أحيانا لمادة ما لشخص عربي (أياً كان تخصّصه)، فتجد نفسك بحاجة إلى مترجم من عدّة لغات من كثرة الكلمات التي التقطها من عدّة لغات، بينما لو استمعت إلى أجنبي يتحدث العربية لما سقطت منه كلمة من لغته الأم أثناء حديثه بالعربية إلا لو عجز عن استدعائها، وسيعترف بذلك ويعتذر عن القصور!

لم أجد مرة إعلامياً أو فناناً، أو حتى خبيرة تجميل فرنسية (مثلاً)، تقحم في نصف كلامها كلمة إنجليزية أو كلمة إيطالية، بينما حينما نتابع الإعلام العربي، نجده محشوراً بلغات من كلّ جانب، كموضة فقط!

لست هنا بصدد مهاجمة تعلّم اللغات الأخرى وممارستها، بل على العكس؛ إنّ قيل قديماً "من تعلم لغة قوم أمن مكرهم"، فواقع العصر الحديث اليوم يقول: "من تعلم لغة قوم أخذ علمهم"، لأن التمكن من لغات الآخرين يفتح أبواباً لمعرفة مجالات عدّة، وليس مجرد ترف أو استعراض و"برستيج"، لقد صار ضرورة في سوق العمل، وأوّل سبيل للتواصل مع الأمم الأخرى، ومن لا يتقن لغة إلى جانب لغته الأم حالياً، حينما يخرج إلى سوق العمل المنفتح على الخارج، سيجد نفسه كمن لا يجيد الكلام.  

أخيرا، يمكن القول إنّ تعلّم اللغات الأخرى مهم جداً، لكن هذا لا يعفي من إتقان اللغة الأم، ربما من أجل هذا حدّدت الأمم المتحدة يوم 21 فبراير/ شباط من كلّ عام يوماً دولياً للغة الأم، فمن منكم، أعزاءنا القراء، يشعر حيال لغته أنها "أماً" قادرة على احتواء أفكاره، وهو ابن بار قادر على التعامل معها باحترام وانتماء ووفاء؟!