لم يكن الشاعر عبد الرحمن الأبنودي مثقفاً طليعياً، ذا رؤية سياسية واجتماعية، إذا ما قورن بأبناء جيله من الشعراء، مثل نجيب سرور، وأحمد فؤاد نجم، ونجيب شهاب الدين، ورفيق دربه الذي قدم معه من أقاصي الصعيد، أمل دنقل.
فإذا استندنا إلى تجربته كشاعر؛ نجد أنّ له انحيازاته الجمالية، والثقافية والأخلاقية، كما يتجلى هذا في قصائده، وسياقها الاجتماعي والسياسي. لكنه، من ناحية أخرى، أبدع في تجسيد مشاعر فئة واسعة من المصريين التي حرصت الأنظمة السياسية على وجودها، وإبرازها كممثلة للمصريين الوطنيين "الحقيقيين".
بينما كانت كلمات الأبنودي وصلاح جاهين تخرج للناس من المذياع، ويتبناها نجوم مثل عبد الحليم حافظ ونجاة وشادية وسعاد حسني، كان هناك في حارة "حوش قدم"، القريبة من حي الأزهر ومصر القديمة، نوع آخر من الشعراء يرى مصر أخرى، تحلّق حول الشيخ إمام؛ مثل أحمد فؤاد نجم ونجيب شهاب الدين.
اشتغل الأبنودي في مجموعة "جوابات حراجي القط"، التي صدرت في 1968، أي بعد النكسة بعام، على ثيمة اجتماعية شائعة في المجتمع المصري، هي المراسلات.
إذ يقضي المصريون جلّ حياتهم إما في غربة داخلية من مناطقهم المحرومة من التنمية، أو في مدن مثل القاهرة والإسكندرية، حيث فرص العمل أفضل. وكانت تلك "الجوابات" تحمل بعداً اجتماعياً وعاطفياً كبيراً عندهم. ولعل العلاقات توطدت بين المصري وأهله في "الجوابات" أكثر من حضوره الحقيقي معهم.
نقرأ في هذه المجموعة نصّاً على لسان العامل الأسواني، يخاطب زوجته: "وهنبعتلك في ظرف الجمعة/ طرد الطرحة والجزمة بتوعك/ وكساوي عزيزة وعيد".
في هذه المراسلات، لا نتلمّس شعور الكاتب بالاستياء من الوضع العام، بقدر ما نجد شجناً كبيراً. فهذا "الإنسان المصري البسيط" لا يكترث بالشأن العام، وغارق في التزاماته الفردية تجاه أسرته، أو بتعبير الأبنودي: "الخايف من الغربة ما يجيش/ اتحمل علشان كسوة عيد.. ورغيف عيش".
وفي قصيدة "موّال النهار"، التي غناها عبد الحليم حافظ، نرى أيضاً مصر ما بعد النكسة، حيث "الأسطى حراجي" عاد من بناء السد العالي. نرى مصر في صورة شاعرية حزينة: "قاعدة على الترعة بتغزل شعرها" وتنتظر قدوم النهار مرة أخرى.
في المقابل، نعثر في تناول النكسة على شاعرية مختلفة، ونزعة وطنية مقاومة، لدى شعراء آخرين، كما في قصيدة "بقرة حاحا" لنجم الذي وظّف البقرة، التي كانت تُعدّ ثروةً آنذاك، كرمز سياسي، وعرف كيف يدرجها في سياق درامي: "والبقرة حلوب.. تحلب قنطار/ لكن مسلوب.. من أهل الدار/ والدار بصحاب.. وحدعشر باب/ غير السراديب.. وبحور الديب".
وفي السياق نفسه، كتب نجيب شهاب الدين قصيدة غناها الشيخ إمام، ونرى فيها مصر مكسورة، لكن نجيب يستنهضها لترجع إلى سيرتها الأولى: "يا مصر قومي وشدي الحيل/ كل اللي تتمنيه عندي/ لا القهر يطويني ولا الليل/ أمان أمان بيرم أفندي".
من جهة أخرى، كان ثمة طريقاً ثالثاً أكثر معاناة، يمثّل شاعرية المعارض للسلطة. نقصد هنا الشاعر نجيب سرور الذي عانى من ويلات السجن والقمع على يد رجل المخابرات المصرية، صلاح نصر، عام 1964.
خاض سرور في منطقة جمالية مختلفة وصادمة، هي الشتائم الموجّهة ضد السلطة، فأتت في صورة قصص سردية كانت خافية على الأبنودي؛ منطقة كتب عنها نجيب محفوظ في "ميرامار" و"الكرنك"، وإحسان عبد القدوس في "حتى لا يطير الدخان".
لكن هذه القصص التي حكاها شعرياً في قصيدته الطويلة ".. أميات" كانت أكثر سخرية ومرارة وفضحاً، حيث شبّه مصر بخشبة مسرح يحكمها رجل شتمه سرور بأقبح الألفاظ، ضمن إسقاط على الواقع السياسي، من خلال خشبة المسرح التي تحول الفن عليها إلى أقصى حالات النفاق.
لقد كانت التجربة الناصرية، كما يراها عدد من محبيها، ومنهم الأبنودي، تجسّد الانحياز إلى الفقراء، والاهتمام بالبعد القومي والعروبي. لكن يؤخذ عليها أنها بنت رؤية الحاكم المستبد في النهاية، ولم تكن انعكاساً لنضج "الشعب"، أو تتويجاً لنضالاته.
* كاتب من مصر