تعجب كثيرون من كيفية وصول مئات آلاف الأتراك في ساعات الليل الأخيرة، من منازلهم إلى محيط مطار "أتاتورك"، وشارع وطن، حيث مديرية الأمن، وجسر البوسفور بإسطنبول، وإلى رئاسة الأركان بالعاصمة أنقرة، ليواجهوا الانقلابيين ويمنعوا تمددهم، وليقفوا بأجسادهم العارية أمام آلياتهم ويخرجوهم لاحقاً من تلك المؤسسات.
يبرز في التفسير ما يمكن أن نطلق عليهم "الجنود المجهولون" في ليلة الجمعة 15 يوليو/تموز الجاري، وهم سائقو سيارات الأجرة الصفراء، الذين لم يغيبوا عن إسطنبول، بما في ذلك الشوارع التي سيطر عليها الانقلابيون، وكانوا بعد منتصف الليل، الوسيلة الوحيدة للتنقل بعد توقف وسائط النقل العامة.
سألنا السائق التركي، أركان أرتاش، عن معاناة ليلة الجمعة، وسبب موقف سائقي التاكسي، فقال: "هو عملنا بالدرجة الأولى، وأضيف له جانب إنساني ووطني. وتظاهرنا ضد الانقلاب من خلال العمل وإيصال الناس لبيوتهم وإلى الساحات".
وسألنا: هل جاء السائقين أيُّ أمر أو إيعاز من وزارة الداخلية أو غيرها ليستمروا بالعمل؟، خاصة أن سائقي التاكسي لديهم هاتف نقال كوسيلة اتصال لاسلكية، قال أرتاش: "لم نتلق إيعازاً أو أمراً من أحد على الإطلاق، وليس من مهام سائق التاكسي التجسس كما في بعض البلدان الأخرى، وأما جهاز الهاتف فهو للتواصل بين فريق السائقين الذين يعملون بمكتب واحد لتحديد مكانهم والاستجابة إن كان ثمة طلب سريع بالمكتب أو توجيههم لمكان طلب منزلي".
في المقابل، يرى بعض المراقبين أن ثمة علاقة وطيدة بين سائقي سيارات الأجرة وصناع القرار بتركيا، إذ زار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، العام الفائت مكاتب عدة لسيارات الأجرة بالعاصمة أنقرة، وشرب وأكل مع السائقين ومازحهم.
وكرر العملية الشهر الفائت رئيس الحكومة، بن علي يلدريم، عندما زار موقف سيارات الأجرة بإسطنبول، وشرب مع السائقين الشاي، ونقلت وسائل إعلام تركية وقتها، أن يلدريم أعجب بعبارة كتبها أحد السائقين على سيارته، تقول: "في خدمة الشعب، في خدمة الحق، سنكمل طريقنا، إن هذه الطريق هي طريقنا، لا وقوف، سنكمل الدرب"، فقال يلدريم معقباً: "تماماً كما كتبت، يبدو أنك حفظت مقولتنا بشكل جيد".
وأخبر يلدريم السائقين أنه سائق ماهر، فرد أحد السائقين: "لو وضعنا قبعة على رأسك، وأعطيتك سيارتي للأجرة لتعمل عليها لما عرفك أحد"، فرد يلدريم ممازحاً: "وكيف سنتقاسم المكاسب يومها؟"، فأجابه السائق: "فليكن الربح يومها لك".
نوع آخر من السيارات تميزت ليلة الانقلاب الفاشل، كانت الشاحنة الكبيرة، إذ كانت وسيلة النقل الأبرز للمواطنين إلى شوارع وميادين الاحتشاد، ولعل في صورة الشاحنة التي تقودها سيدة، والتي أبكت رئيس الحكومة، بن علي يلدريم، المعنى الأبلغ لما فعله سائقو الشاحنات في تلك الليلة الطويلة.
ويقول السوري عمر سلامة (62 سنة): "كنت في ساحة تقسيم عندما بدأ الهرج والمرج، وبدأ جمهور مؤيد للانقلاب بالتوافد ورفع الهتافات، شعرت أن القصة مؤقتة لأن المنطقة تشهد مظاهرات احتجاج وتجمهرات للمعارضين، منذ أحداث حديقة غيزه، لكن بدأ التصعيد والتواجد الأمني وإغلاق المحال وهروب الناس، ما دفعني للنزول لشارع (بي أوغلو) لأذهب لبيتي الكائن بمنطقة (ميرتر)، حيث فوجئت أن الشوارع شبه خالية، إلا من الناس الذين يتخبطون في واقع غياب الملامح وقتذاك، كانت الساعة نحو الحادية عشرة وليس من باصات ولا أي وسيلة نقل عامة، إلا سيارات الأجرة الممتلئة".
اقــرأ أيضاً
ويتابع سلامة لـ"العربي الجديد": "وقفت لنحو نصف ساعة وبدأ الخوف ينتابني، خاصة أن أسرتي معي (زوجتي وثلاثة أولاد)، كنت قد وعدتهم بزيارة ساحة تقسيم وشارع الاستقلال منذ زمن، إلا أن سائق سيارة أجرة توقف قربنا على الرغم من أنه يقل راكبا بالمقعد الأمامي وسألني إلى أين؟، أجبته إلى ميرتر، فقال اصعد لا يوجد سيارات، معي زبون إلى منطقة الفاتح وبعدها أوصلكم".
"لم نتردد لحظة وركبنا السيارة كغارق رُمي له طوق نجاة، وذهب السائق باتجاه شارع فوزي باشا من قرب الإطفائية، لكن الزحام هناك كان خانقاً، فأكمل من تحت الجسر إلى أكسراي، شارع وطن ليهرب من الزحام، فوقع في أكثر المناطق ازدحاما وخطورة، حيث بدأ الانقلابيون ببسط سيطرتهم على مديرية الأمن العام بشارع وطن، وسمعنا إطلاق النار وتوافد الأتراك في مشهد مريع" يواصل سلامة.
يقول الرجل السوري: "استغرق مشوارنا الذي لا يزيد بالأحوال الطبيعية عن ربع ساعة ولا تزيد تكلفته عن 24 ليرة، أكثر من ساعتين وتعدى العداد المائة ليرة، وأصر السائق على الرغم من الخطر أن يوصلنا إلى المنزل. ولما أعطيته 100 ليرة تركية، سألني كم تدفع في العادة من تقسيم إلى هنا، فقلت 25 ليرة، فأخذ 25 ليرة وأعاد لي بقية المبلغ. ولم يتراجع على الرغم من إلحاحي وشكري الشديدين".
قصة السوري عمر سلامة تكررت وسمعناها عشرات المرات، وقلما ذكر أحد أن سائقي التاكسي استغلوا الموقف ليفرضوا أسعاراً، أو أنهم أنزلوا راكباً دون إيصاله، بل ثمة إجماع على أنهم استمروا وحتى صبيحة يوم السبت، بالوقوف إلى جانب الشعب، سواء بإيصاله للبيوت أو نقله لساحات التظاهر.
لبى الشعب التركي، بكامل أطيافه السياسية وفئاته العمرية، طلب الرئيس، رجب طيب أردوغان، لمواجهة الدبابات، بيد أن عوامل مساعدة، قلما تم ذكرها، منها مآذن الجوامع التي حشّدت وحرضت الشعب للنزول للشوارع، وأيضاً السيارات التي أقلتهم وأعادتهم للبيوت، وكان بعضها سداً بوجه الدبابات والعربات العسكرية لتمنعها من التقدم.
يبرز في التفسير ما يمكن أن نطلق عليهم "الجنود المجهولون" في ليلة الجمعة 15 يوليو/تموز الجاري، وهم سائقو سيارات الأجرة الصفراء، الذين لم يغيبوا عن إسطنبول، بما في ذلك الشوارع التي سيطر عليها الانقلابيون، وكانوا بعد منتصف الليل، الوسيلة الوحيدة للتنقل بعد توقف وسائط النقل العامة.
سألنا السائق التركي، أركان أرتاش، عن معاناة ليلة الجمعة، وسبب موقف سائقي التاكسي، فقال: "هو عملنا بالدرجة الأولى، وأضيف له جانب إنساني ووطني. وتظاهرنا ضد الانقلاب من خلال العمل وإيصال الناس لبيوتهم وإلى الساحات".
وسألنا: هل جاء السائقين أيُّ أمر أو إيعاز من وزارة الداخلية أو غيرها ليستمروا بالعمل؟، خاصة أن سائقي التاكسي لديهم هاتف نقال كوسيلة اتصال لاسلكية، قال أرتاش: "لم نتلق إيعازاً أو أمراً من أحد على الإطلاق، وليس من مهام سائق التاكسي التجسس كما في بعض البلدان الأخرى، وأما جهاز الهاتف فهو للتواصل بين فريق السائقين الذين يعملون بمكتب واحد لتحديد مكانهم والاستجابة إن كان ثمة طلب سريع بالمكتب أو توجيههم لمكان طلب منزلي".
في المقابل، يرى بعض المراقبين أن ثمة علاقة وطيدة بين سائقي سيارات الأجرة وصناع القرار بتركيا، إذ زار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، العام الفائت مكاتب عدة لسيارات الأجرة بالعاصمة أنقرة، وشرب وأكل مع السائقين ومازحهم.
وكرر العملية الشهر الفائت رئيس الحكومة، بن علي يلدريم، عندما زار موقف سيارات الأجرة بإسطنبول، وشرب مع السائقين الشاي، ونقلت وسائل إعلام تركية وقتها، أن يلدريم أعجب بعبارة كتبها أحد السائقين على سيارته، تقول: "في خدمة الشعب، في خدمة الحق، سنكمل طريقنا، إن هذه الطريق هي طريقنا، لا وقوف، سنكمل الدرب"، فقال يلدريم معقباً: "تماماً كما كتبت، يبدو أنك حفظت مقولتنا بشكل جيد".
وأخبر يلدريم السائقين أنه سائق ماهر، فرد أحد السائقين: "لو وضعنا قبعة على رأسك، وأعطيتك سيارتي للأجرة لتعمل عليها لما عرفك أحد"، فرد يلدريم ممازحاً: "وكيف سنتقاسم المكاسب يومها؟"، فأجابه السائق: "فليكن الربح يومها لك".
نوع آخر من السيارات تميزت ليلة الانقلاب الفاشل، كانت الشاحنة الكبيرة، إذ كانت وسيلة النقل الأبرز للمواطنين إلى شوارع وميادين الاحتشاد، ولعل في صورة الشاحنة التي تقودها سيدة، والتي أبكت رئيس الحكومة، بن علي يلدريم، المعنى الأبلغ لما فعله سائقو الشاحنات في تلك الليلة الطويلة.
ويقول السوري عمر سلامة (62 سنة): "كنت في ساحة تقسيم عندما بدأ الهرج والمرج، وبدأ جمهور مؤيد للانقلاب بالتوافد ورفع الهتافات، شعرت أن القصة مؤقتة لأن المنطقة تشهد مظاهرات احتجاج وتجمهرات للمعارضين، منذ أحداث حديقة غيزه، لكن بدأ التصعيد والتواجد الأمني وإغلاق المحال وهروب الناس، ما دفعني للنزول لشارع (بي أوغلو) لأذهب لبيتي الكائن بمنطقة (ميرتر)، حيث فوجئت أن الشوارع شبه خالية، إلا من الناس الذين يتخبطون في واقع غياب الملامح وقتذاك، كانت الساعة نحو الحادية عشرة وليس من باصات ولا أي وسيلة نقل عامة، إلا سيارات الأجرة الممتلئة".
"لم نتردد لحظة وركبنا السيارة كغارق رُمي له طوق نجاة، وذهب السائق باتجاه شارع فوزي باشا من قرب الإطفائية، لكن الزحام هناك كان خانقاً، فأكمل من تحت الجسر إلى أكسراي، شارع وطن ليهرب من الزحام، فوقع في أكثر المناطق ازدحاما وخطورة، حيث بدأ الانقلابيون ببسط سيطرتهم على مديرية الأمن العام بشارع وطن، وسمعنا إطلاق النار وتوافد الأتراك في مشهد مريع" يواصل سلامة.
يقول الرجل السوري: "استغرق مشوارنا الذي لا يزيد بالأحوال الطبيعية عن ربع ساعة ولا تزيد تكلفته عن 24 ليرة، أكثر من ساعتين وتعدى العداد المائة ليرة، وأصر السائق على الرغم من الخطر أن يوصلنا إلى المنزل. ولما أعطيته 100 ليرة تركية، سألني كم تدفع في العادة من تقسيم إلى هنا، فقلت 25 ليرة، فأخذ 25 ليرة وأعاد لي بقية المبلغ. ولم يتراجع على الرغم من إلحاحي وشكري الشديدين".
قصة السوري عمر سلامة تكررت وسمعناها عشرات المرات، وقلما ذكر أحد أن سائقي التاكسي استغلوا الموقف ليفرضوا أسعاراً، أو أنهم أنزلوا راكباً دون إيصاله، بل ثمة إجماع على أنهم استمروا وحتى صبيحة يوم السبت، بالوقوف إلى جانب الشعب، سواء بإيصاله للبيوت أو نقله لساحات التظاهر.
لبى الشعب التركي، بكامل أطيافه السياسية وفئاته العمرية، طلب الرئيس، رجب طيب أردوغان، لمواجهة الدبابات، بيد أن عوامل مساعدة، قلما تم ذكرها، منها مآذن الجوامع التي حشّدت وحرضت الشعب للنزول للشوارع، وأيضاً السيارات التي أقلتهم وأعادتهم للبيوت، وكان بعضها سداً بوجه الدبابات والعربات العسكرية لتمنعها من التقدم.