11 سبتمبر 2015
موت حزب الثقافة
الحسن حرمه (الجزائر)
عندما رفَعت هذه المنطقة العربية شعار "الشعبُ يريدُ إسقاط النظام" عنواناً للربيع العربي، لم يكن هناك شيء يسمى "نظام" يستوجب إسقاطه، نتيجة ميراث الفوضى المكفهرة المعبرة عن مناخاتٍ كرنفاليةٍ سوداوية، تؤكدُ لحظة اللايقين ومرحلة تصريف الأعمال، لترتيبات ما قبل عودة الاستعمار، بعدَ هزيمة الأنظمة العربية الحالية في تأسيس سُلالاتها الحاكمة، ضِمن أطُر دولّها الوطنية. وحتى عندما كتب ابن خلدون عن العصبية ودورة العمران، أسس نظرة استشرافية للتشوهات الحالية، وجعلها المفتاح الذي يُسيّر أحداث التاريخ العربي والإسلامي.
كانت سنة 2011 انكساراً شاملاً لمفهوم الوطن وفلسفة التغيير جعلت الطبقة السياسية والمجتمعات غير مدركةٍ للمخاطر والأعراض الجانبية، لإرادتها ومستويات خياراتها، في ظل كيمياء سياسية ترسم الرجفة الكبرى، مقدمتها صورة شاب عربي مستسلماً أمام الكاميرا لقدره مردداً الشهادتين، ولفظ التكبير، وخلفهُ جزاره "الدعشوش"، بدوره يناجي ربه بـ"تكبيرته" وشهادته المخمورة، لمفهوم الدين، مرسلاً صوراً مفزعة.
في هذه البيئة السّياسية والاجتماعية، تبدو مساحات كبرى فارغة نتيجة غياب دور المثقفين المنسحبين، استكباراً أو تواطؤا أو غياباً، في ظل ضمور تأثير المثقف العضوي الذي عرفه أنطونيو غرامشي بكونه مرتبطاً بالجماهير، الراغب في التغيير صاحب مشروع الإصلاح الثقافي والأخلاقي، وما يحكمهُ ليس الخصائص الجوهرية لنشاطه الذهني، بل الوظيفة الاجتماعية التي يؤديها لمجتمعه.
كان أنطونيو غرامشي نفُسهُ مفكراً وزعيماً سياسياً، مات مدافعاً عن قناعاته، مثل ميشيل عفلق، مصالي الحاج، فرانز فانون، جان بول سارتر، الذي وقف بشجاعة إلى جانب الشعب الجزائري من أجل حريته وكرامته في مناهضته الاستعمار، ورفض جائزة نوبل دفاعا عن رؤيته، وهي التي يتقاتل عليها العالم، مثل مخزونات الطاقة، كما مولود فرعون ولوثر كينغ ومالك بن نبي ومحمد ديب الذي تنبأ بالثورة الجزائرية في روايته "الحريق"، كلهم مثّقفون ناضلوا من أجل فِكرتهم، ولم يعيشوا على الهامش، بانتمائهم لـ"حزب الثقافة".
السخريةُ أن هذا الربيع العربي كشف صحراء ثقافية هائلة، وفكراً قبلياً مستشرياً بين دوائر معرفية، من أجل منافع مادية أكثر منها رؤى أيديولوجية، فقد أخذ "المثقف الشمولي" الذي ولد في استوديوهات الفضائيات يبدي استعداداً لتبديل موقفه وقناعاته أمام وهج الكاميرا والتزلف ضمن حقولٍ إثنية وطائفية ضيقة، ولا يحتاج فهم ذلك إلى نظريات أرنولد تُوينبي، حول التحدي والاستجابة، في أن المجتمع الذي يتعرَّض لصدمةٍ قد يفقدُ توازنه فترة ما، ثمَّ قد يستجيب لها بنوعين من الاستجابة، بالنكوص إلى الماضي لاستعادته والتمسُّك به تعويضًا عن واقعه المُرّ؛ والثانية، تقبُّل الصدمة والاعتراف بها.
هذه الزحزحات السياسية، المعرفية المركبة، والحالة اليابسة في المشهد العام، تعيد طرح فكرة مالكوم إكس حول زنجي الحقل وزنجي البيت الذي كان دائما يرعى سيده، عندما كان زنوج الحقل يتجاوزون حدودهم يرجعهم إلى الصراط المستقيم. كَان يفْعل ذلك، لأنهُ يعيش أفضل من زنجي الحَقل، يلبسُ جيداً، يعيشُ بجوار سيده في القبو، ويحبهُ أكثر مما يحبُ سيده نفسه أما زنوج الحَقل فيأكلون أسوأ الطعام، يعيشون في أكواخٍ وليس لديهم ما يخْسرُون، كانواْ يشْعُرون بلدغةِ السّياط ’يكرهون سّيدهم، ويْدعون عليه بالِموت.
صياغة مالكوم إكس عن الزنوج تشبه تماماً حال المثقفين في العالم العربي، فهم منقسمون سياسياً وطائفياً وإيديولوجياً، بين مثقفي الحقل والبيت، ومجتمعات منكشفة معرفيا، زجاجية المحتوى الديني، تدفع ثمن تدفقات الصورة وتراكمات عقودِ التجهيل، بسبب القراءة اليابسة للإرث الديني والسّياسي والتاريخي. لذلك لا نستغرب حجم الانهيارات والفساد المتّعدد المسالك، وحُفر معرفية سوف تؤدي، مستقبلاً، إلى توالد أجيالٍ مفككة، ومنظوماتٍ سلوكيةٍ، عاطفية انفعالية، تزيد المساهمة في ميلاد إنسان مهزوز فكرياً، يتكئ على متناقضاتٍ سوسيولوجية عميقة، وشبكات سياسية فاسدة سخّرت جميع ثرواتها لصناعة ركائز تكوين الجهل. وبالتالي، ليس غريباً حجمُ العنف والعنصرية والشوفينية والتعصبُ الذي يخنق مجتمعاتنا، خَلل حَضاري سببه عطالة ُالعقل الرمزية، ومعارف مسيجة لصالح الفلكلور الهادر بّين ديانات - كُرة القدم، التَجييشُ الطَائفي، التَسطيح ُالسياسي. وكما قال فرانك كلارك إن سبب انتشار الجّهل أن من يملكونه متحمِسون جداً لنشره.
نحنُ نعيشُ أسوأ مراحلنا التي يتّحملُ فيها المثقفون مسؤوليةً كبيرة، برؤيتهم السلبية الهامشية المغرورة للأحداث ترفعاً واستكباراً عن المجتمع وقضاياه وحًركته العادية، وبروز قوافل نُخب فارغة "تحت الخدمة" انتفاعية، عَزّزت الفرز طائفياً من السياسي الطائفي، الصحافي، الكاتب المحلل، الشيخ، الملحد، المُثقف والقناةُ الطائفية، وإعادة تَمثيلُ أنموذج المُجتمعات العربية المُتقاتلة على الماء والكلأ والنار.
في هذه البيئة السّياسية والاجتماعية، تبدو مساحات كبرى فارغة نتيجة غياب دور المثقفين المنسحبين، استكباراً أو تواطؤا أو غياباً، في ظل ضمور تأثير المثقف العضوي الذي عرفه أنطونيو غرامشي بكونه مرتبطاً بالجماهير، الراغب في التغيير صاحب مشروع الإصلاح الثقافي والأخلاقي، وما يحكمهُ ليس الخصائص الجوهرية لنشاطه الذهني، بل الوظيفة الاجتماعية التي يؤديها لمجتمعه.
كان أنطونيو غرامشي نفُسهُ مفكراً وزعيماً سياسياً، مات مدافعاً عن قناعاته، مثل ميشيل عفلق، مصالي الحاج، فرانز فانون، جان بول سارتر، الذي وقف بشجاعة إلى جانب الشعب الجزائري من أجل حريته وكرامته في مناهضته الاستعمار، ورفض جائزة نوبل دفاعا عن رؤيته، وهي التي يتقاتل عليها العالم، مثل مخزونات الطاقة، كما مولود فرعون ولوثر كينغ ومالك بن نبي ومحمد ديب الذي تنبأ بالثورة الجزائرية في روايته "الحريق"، كلهم مثّقفون ناضلوا من أجل فِكرتهم، ولم يعيشوا على الهامش، بانتمائهم لـ"حزب الثقافة".
السخريةُ أن هذا الربيع العربي كشف صحراء ثقافية هائلة، وفكراً قبلياً مستشرياً بين دوائر معرفية، من أجل منافع مادية أكثر منها رؤى أيديولوجية، فقد أخذ "المثقف الشمولي" الذي ولد في استوديوهات الفضائيات يبدي استعداداً لتبديل موقفه وقناعاته أمام وهج الكاميرا والتزلف ضمن حقولٍ إثنية وطائفية ضيقة، ولا يحتاج فهم ذلك إلى نظريات أرنولد تُوينبي، حول التحدي والاستجابة، في أن المجتمع الذي يتعرَّض لصدمةٍ قد يفقدُ توازنه فترة ما، ثمَّ قد يستجيب لها بنوعين من الاستجابة، بالنكوص إلى الماضي لاستعادته والتمسُّك به تعويضًا عن واقعه المُرّ؛ والثانية، تقبُّل الصدمة والاعتراف بها.
هذه الزحزحات السياسية، المعرفية المركبة، والحالة اليابسة في المشهد العام، تعيد طرح فكرة مالكوم إكس حول زنجي الحقل وزنجي البيت الذي كان دائما يرعى سيده، عندما كان زنوج الحقل يتجاوزون حدودهم يرجعهم إلى الصراط المستقيم. كَان يفْعل ذلك، لأنهُ يعيش أفضل من زنجي الحَقل، يلبسُ جيداً، يعيشُ بجوار سيده في القبو، ويحبهُ أكثر مما يحبُ سيده نفسه أما زنوج الحَقل فيأكلون أسوأ الطعام، يعيشون في أكواخٍ وليس لديهم ما يخْسرُون، كانواْ يشْعُرون بلدغةِ السّياط ’يكرهون سّيدهم، ويْدعون عليه بالِموت.
صياغة مالكوم إكس عن الزنوج تشبه تماماً حال المثقفين في العالم العربي، فهم منقسمون سياسياً وطائفياً وإيديولوجياً، بين مثقفي الحقل والبيت، ومجتمعات منكشفة معرفيا، زجاجية المحتوى الديني، تدفع ثمن تدفقات الصورة وتراكمات عقودِ التجهيل، بسبب القراءة اليابسة للإرث الديني والسّياسي والتاريخي. لذلك لا نستغرب حجم الانهيارات والفساد المتّعدد المسالك، وحُفر معرفية سوف تؤدي، مستقبلاً، إلى توالد أجيالٍ مفككة، ومنظوماتٍ سلوكيةٍ، عاطفية انفعالية، تزيد المساهمة في ميلاد إنسان مهزوز فكرياً، يتكئ على متناقضاتٍ سوسيولوجية عميقة، وشبكات سياسية فاسدة سخّرت جميع ثرواتها لصناعة ركائز تكوين الجهل. وبالتالي، ليس غريباً حجمُ العنف والعنصرية والشوفينية والتعصبُ الذي يخنق مجتمعاتنا، خَلل حَضاري سببه عطالة ُالعقل الرمزية، ومعارف مسيجة لصالح الفلكلور الهادر بّين ديانات - كُرة القدم، التَجييشُ الطَائفي، التَسطيح ُالسياسي. وكما قال فرانك كلارك إن سبب انتشار الجّهل أن من يملكونه متحمِسون جداً لنشره.
نحنُ نعيشُ أسوأ مراحلنا التي يتّحملُ فيها المثقفون مسؤوليةً كبيرة، برؤيتهم السلبية الهامشية المغرورة للأحداث ترفعاً واستكباراً عن المجتمع وقضاياه وحًركته العادية، وبروز قوافل نُخب فارغة "تحت الخدمة" انتفاعية، عَزّزت الفرز طائفياً من السياسي الطائفي، الصحافي، الكاتب المحلل، الشيخ، الملحد، المُثقف والقناةُ الطائفية، وإعادة تَمثيلُ أنموذج المُجتمعات العربية المُتقاتلة على الماء والكلأ والنار.