ماراثون الكلمات

30 يونيو 2015
+ الخط -
أقيمت، بين 25 و28 يونيو/حزيران الجاري، في مدينة تولوز الفرنسية، تظاهرة ثقافية عملاقة، تحمل عنوان "ماراثون الكلمات"، خصصت طبعتها الحادية عشرة لبيروت ودمشق، ودُعيت إليها مجموعة من الكتّاب اللبنانيين والسوريين المترجمة أعمالهم إلى الفرنسية، أو الذين يكتبون بالفرنسية مباشرة، إلى جانب كتاب أجانب وفرنسيين. وكان الملفت في هذه التظاهرة القراءات التي يقوم بها ممثلون محترفون، ذوو أسماء لامعة في عالمي المسرح والسينما، لبعض النصوص الروائية، المسرحية، وحتى أحياناً الصحفية، ما جذب إليها أعداداً كبيرة من المشاهدين دفعوا، في بعض الأحيان، ثمن بطاقة دخول لحضور بعضها.

إلى تولوز، حضرت يوم الجمعة، للمشاركة في ثلاثة لقاءات، حُصرت مواعيدها كلها في نهار السبت، جرى اثنان منها في الضواحي القريبة، أما الثالث فداخل حدود "المدينة الزهرية". وقد كان رائعاً اكتشاف أن معظم العاملين ضمن التظاهرة متطوّعون توزعوا على فئتين كبيرتين: فإما هم سائقون يؤمّنون نقل المدعوين، أو "ملائكة حرّاس" يعتنون بالكتّاب، فيرافقونهم في تحركاتهم، ويلبون احتياجاتهم. مدينة هائلة تحوّلت إلى خلية، من أجل إنجاح تظاهرة تستقبل كتّاباً أجانب، لم يسمع الجمهور عنهم دائماً، ولم يقرأ لهم دائماً، ومع ذلك، كان حاضراً دائماً للتعرف إليهم وإلى أعمالهم. 

إلا أن أجمل ما في "ماراثون الكلمات" أنك لا تلتقي تقريباً أبداً بالكتّاب الذين حضروا، وإلا فمصادفة، إذ إن المطلوب هو أن تلتقي بالجمهور وأن يلتقي الجمهور بك، أن يتعرّف إليك حين يجري تقديمك وتقديم أعمالك، ثم أن يستمع إليك أو إلى ممثل يقرأ من كتبك، أن يسألك، ويعصرك حتى، كي يأخذ منك النسغ، فوجودك هنا فرصة استثنائية لا تعوَّض، وهو لا يطلب أكثر من أن يصغي إليك، يعجب بك، ويشتري كتابك، كي توقعه له إن حصل أن أقنعته أو لمسته. 

خلال 45 دقيقة، قرأتُ من (لغة السر) الصادرة حديثاً بالفرنسية. أنا على خشبة المسرح، وروايتي تحت ضوء مصباح لا ينير إلا صفحتي. لا أرى الوجوه الغارقة في العتمة، والسابحة في سكون تام. أشعرني أقرأ للفراغ، إذ لا أسمع همسة، كلمة. أتوقف بين الحين والحين، لأبتلع لعابي، لأرطب لساني، ثم أتابع متمنية أن أنتهي من هذا التمرين الصعب. 

أغلق الرواية، شاكرة حسن الاستماع. تُضاء الصالة، وأرى الوجوه ساهمةً ما زالت تحدق بي. ألتفت إلى ملاكي الحارس، أسأله إن كان قد فاتني أمر ما. لا، يجيبني، فأردف: لم لا يقومون إذن، وما هو المطلوب الآن؟ لا شيء، يقول لي، هم لا يريدون المغادرة، لأنهم أحبوا ما قرأتِ، ويودون البقاء معك بعدُ قليلاً. أبتسم. لم يملّوا إذن، لم يتعبوا، لم يتململوا ولم يلعبوا بهواتفهم الذكية، ولم يتبادلوا الهمسات والتعليقات، ولو استمررت في قراءتي ساعات، لظلوا جالسين؟ ربما.

يتشكل صف من أناس، يحملون الرواية بانتظار أن أوقعها. أفكر أن الكلمات هي الجسور الحقيقية الوحيدة المتبقية لنا، وأن عبورها يقصّر كل المسافات. تتقدم مني امرأة ستينية، وتسألني فيما أنا أوقع نسختها، رأيي في ما حدث، أمس، في الكويت، وتونس، وفرنسا. ماذا؟ لم أكن أعلم. أمضيت يوم الجمعة كله في الطائرة من بيروت إلى باريس، ثم في المطار، ثم من باريس إلى تولوز، وحين وصلت إلى الفندق، كانت الساعة تدق منتصف الليل. أبتسم للمرأة، وأشعر بقلبي يهوي عميقاً، سحيقاً، بين قدميّ. ما هذه اللعنة. ما هذا القدر الخبيث اللعين. أكاد أكرهها. لمَ لا تدعينني أنعم بقليل من البُعاد، بشيء من الانسلاخ والانقطاع؟ وبما تريدينني أن أقاوم كل هذا المدّ، كل تلك الجحافل، وكل تلك الزلازل التي تهدّ الجبال، أبكلمات؟ 
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"