في أواسط تشرين الأوّل/ أكتوبر الجاري، غيّب الموتُ الشاعر لوران غاسبار، الذي كان قد انسحب من العالم قبلها بسنوات، وذلك من جرّاء إصابته بمرض الألزهايمر الذي فصله عن محيطه. وغاسبار، المجايلُ لـ إيف بونفوا وجون غروجان، يُعدّ أحد أهم وجوه الشعر الفرنسي المعاصر. صدرت معظم أعماله عن "دار غاليمار للنشر"، كما أُعيد نشر كثير من كتبه الشعرية في سلسلتها الشهيرة "شعر/ غاليمار" (Poèsie/ Gallimard).
أعماله هي حياته، هي تلك اليوميات التي ظلّ يدوّنها سنوات عمره، والتي تتضمّن تأملاته ورؤاه في الوجود والخلق الشعري وحواراته مع الطبيعة والأشياء والبشر، والتي تروي تجارب حياة عرفت الاقتلاع والمنفى وعاينت مآسي التاريخ، وخاصة التراجيديا الفلسطينية. كان لوران صديقاً للشعب الفلسطيني، وكثيراً ما كان يستقبلني بكلمات ترحاب باللهجة الفلسطينية...
منذ البدء، كان لوران كما لو أنه مرصود للترحال في العالم من جبال الكربات في ترنسلفانيا حيث وُلد سنة 1925 إلى فلسطين حيث عمل جرّاحاً في مستشفى بيت لحم ومستشفى القدّيس يوسف في القدس. فلسطين كانت بوّابته إلى صحاري العرب وإلى ثقافة العرب. أحبّ فلسطين وكان له تعاطف كبير مع الفلسطينيّين... كان يعالجهم ويدخل بيوتهم حيث كان يقاسمهم شرب الشاي، كما ربطته علاقات كثيرة مع شخصيات فلسطينية. ولما غادر بعد حرب حزيران، ترك هناك ابنه الفنّان المسرحي فرانسوا أبو سالم (1951 - 2011).
غادر لوران فلسطين بعدما شاهد فظائع الصهاينة، وتزامن ذلك مع لحظة تطوُّر روحي وفكري قاده إلى اعتناق فلسفة سبينوزا، كما لو أنه، وهو أيضاً اليهودي القادم من جبال الكربات وصاحب الحسّ الإنساني العميق، استشعر الانفصال الفكري و النفسي عن تلك القبيلة وميثولوجياتها.
يقول في سيرة مختصرة كتبها ضمن أعمال "مؤتمر سيريزي" في إيطاليا إنه عندما أرسلته الحكومة الفرنسية للعمل في فلسطين، لم يكن يحمل أيّةَ فكرة عن الأوضاع المضطربة التي كانت تهزّ منطقة "الشرق الأوسط" في تلك اللحظة من خمسينات القرن العشرين. وبعد إقامته فيها لسنوات عايش خلالها المعاناة الفلسطينية، وضع كتابَين هما: تاريخ فلسطين (صدر في باريس عن "دار ماسبيرو" سنة 1968)، و"فلسطين، السنة الصفر" (1970) الذي نقل فيه تاريخ فلسطين حسب روايته إلى اللغة الفرنسية.
وحتى عندما غادر لوران فلسطين، ظلَّ وفياً للبحر المتوسّط القديم، فاتخذ له بيتاً في جزيرة باتموس اليونانية وآخر في سيدي بوسعيد التونسية على مرمى حجر من مدينة قرطاج الكنعانية، هو المأخوذ بجغرافيات أرض كنعان... قضى لوران أكثر من ثلاثين سنة بين سيدي بوسعيد وباثموس ولكنه لم يكف في الأثناء عن الترحال في العالم؛ إذ السفر لديه ليس سياحة بقدر ما هو اكتشاف ومحاورة الأشياء. هكذا جاء ديواناه "الحالة الرابعة للمادة" (1967) و"أرض المطلق" كما لو كانا ملحمةً لتلك الجغرافيات التي أحبّها.
وتوالت كتبه الشعرية، فأصدر مجموعته "بحر إيجة" تليها "يهودا"، و"باثموس وقصائد أخرى"، و"حقول معدنية" عن "دار فلاماريون"، و"أجسام آكلة" عن "دار فاتا مورغانا"، و"البيت قرب البحر" (صدر في ترجمة عربية عن دار التوباد" في تونس) و"أشجار اللوز" عن "دار بيير آلان بينجود".
لـ لوران غاسبار كتب نثرية هي مذكّرات رحلاته عبر العالم؛ من بينها "دفاتر السفر"، و"بلاد العرب السعيدة"، و"البحث عن الكلمة"، و"ملاحظات سريرية"، والكتابان الأخيران مزيج من التأمُّل الشعري والفلسفي في عملية الخلق؛ حيث يوازي بين الخلق الشعري والخلق في الطبيعة.
وغاسبار مترجِم له باع كما تقول العرب في معرفة اللغات. ترجم من الإنكليزية مجموعة قصص لـ دافيد هربرت لورانس، ومن المجرية نقل أعمال يانوس بيلينسكي وبيتر رايلي وأشعار جورج شامليو، ومن الألمانية نقل ديوان راينر ماريا ريلكه "مراثي دوينو". كما نقل عن اليونانية أشعار قسطنطين كفافيس ويوميات صديقه جورج سيفيريس؛ الشاعر اليوناني صاحب جائزة نوبل للآداب.
مارس غسبار التصوير الفوتغرافي وأقام معارض عدة في تونس وباريس. في السبعينات، أصدر مجلّة "أليف" في تونس، وهي نشرة فصلية باللغتين العربية والفرنسية، نشر فيها ترجمات كثيرة من الشعر العربي وخاصة الفلسطيني: راشد حسين الذي ظل يذكر حادثة موته التراجيدي في نيويورك بكثير من التفجّع، وسميح القاسم ومحمود درويش وبقية الشعراء العرب، مثل نزار قباني وبلند الحيدري، وكتابات بالفرنسية لشعراء وقصّاصين جزائريّين وتونسيّين ولبنانيّين، إلى جانب كتّاب فرنسيّين ومجريّين.
مبكّراً عانى غاسبار تجربة الحرب والاقتلاع، هو القادم من جبال الكربات ليجد نفسه محتجزاً في صوابيا في معسكر للعمل تابع للجيش الروسي في أثناء الحرب العالمية الثانية. قال لي في حديث خاص: "ظللنا في المعسكر بعد انتهاء الحرب، إذ لم يصلنا خبر انتهائها إلا بعد مرور شهرين على توقّف المعارك، عندها جاءت القوات الفرنسية وأخذتنا إلى فرنسا".
وفي فرنسا درس الطب، وبعد التخرج أُرسل ليعمل جرّاحاً في مستشفيات بيت لحم والقدس، وهناك تعرّف على حياة الفلسطينيين عن قرب. يقول إنه لم تكن له أية فكرة عن المنطقة قبل أن يُرسل إليها.
سافر في صحاري العرب مشرقاً ومغرباً، وعاشر البدو في الخيام وكتب عنهم أجمل الصحائف، انتقل بعد حرب حزيران إلى تونس حيث عمل جرّاحاً في "المستشفى المركزي- شارل نيكول" المعروف في تونس بـ "سبيطار فرانسيس"، واستمر في أسفاره.
أكمل حياته في باريس. وقبل رحيله ببضع سنوات، صدرت له مجموعة "عند ظهر الرب".
عندما هاجمه المرض، استمرّ في الكتابة. كان يظل يكتب كامل الليل، كما تقول زوجته جاكلين غوتمان. وعندما يبدأ ضوء النهار بالانبلاج، يذهب إلى سريره ويترك أوراقه المبعثرة.
وعندما اشتد به المرض ونسي كل شيء، جمعت جاكلين تلك الأوراق وكانت مادّة ديوانه الأخير "عند ظهر الرب"، وهو سفح جبل الكربات الذي كان الفلاحون يدعونه "ظهر الرب"... في آخر زيارة له في مشفاه بشارع شارش ميدي في باريس، رأيت قصاصات أوراق صغيرة مبعثرة فوق المنضدة الصغيرة التي في ركن غرفته وتذكرت جملةً من أحد الحوارات التي أجريتها معه قبل حوالي ثلاثين سنة قال: "في سن مبكرة... حوالي الثانية عشرة، بدأت كتابة يوميات... أروي فيها ما يقع من حولي... ".
وقد تجاوز التسعين، ورغم سطوة المرض، استمر في الكتابة المتماهية لديه مع إيقاع الحياة والتنفس.