كوبا.. بلد كرهته (3-3)

11 فبراير 2015
نظلم العالم حينما نعتقد أن كل مدينة تشبه جارتها(Getty)
+ الخط -

ضقت ذرعاً بالعاصمة الكوبية، هافانا، فبعد 3 أسابيع لم أنسج أي صداقات ولم أنجح في اختراق المجتمع، فحملت شنطتي واتجهت إلى منطقة تسمى ترينيداد، وتبعد رحلة 5 ساعات بالحافلة عن هافانا، وتقع في منتصف الطريق بين هافانا وغوانتامو. وغوانتامو تقع ضمن محافظة تسمى سانتياغو، تشتهر بثقافتها الخاصة التي تستمد جذورها الأفريقية من بواخر العبيد التي كان يشتريها الإسبان من أفريقيا للعمل في زراعة السكر في كوبا. وبما أن ترينيداد تقع في المنتصف، فهي تحمل خليطاً كبيراً بين الثقافتين، الإسبانية والأفريقية.

عندما تصل إلى المدينة، ستجد مدينة كولونيالية على طراز المدن الإسبانية القديمة، بيوت عربية يتوسطها الفناء، لا تزيد قامتها عن الطابقين، كنائس، حدائق صغيرة، نخيل، بيوت ملونة، وهدوء تحت الشمس، وموسيقى تحت القمر. لم أكن أحمل أكثر من حقيبة ظهر ولحاف، ومذكرات تشي جيفارا (ماذا يمكن أن تقرأ في كوبا؟).

كنت قد وصلت المدينة في الصباح الباكر، تركت الخريطة جانباً، وقررت التسكع دون هدف في لقائي الأول مع ترينيداد. انطلقت من الساحة الرئيسية الفخمة إلى الأزقة الضيقة المتعبة، رأيت الابتسامة تمتزج بالعرق، ورأيت الشيخوخة تمتزج بالطيبة، توقفت عند محل خضار، وجدت فاكهة جديدة، جربت بعض الأنواع. عادت لي روحي مرة أخرى لأني وجدت شعباً مختلفاً عن هافانا، أكثر طيبة، وأقل رأسمالية. سألت الناس إن كان بإمكان النوم في الحدائق العامة، استغربوا السؤال، لكنهم اقترحوا علي ساحة الكنيسة للنوم. بعد المغيب، سمعت صوت غيتار يأتي من إحدى الحدائق، تبعته لأجد شاباً أسمر يعزف بخشوع دون أن يغني، وقفت قبالته أنظر بأذني لعزفه. وإذا بيد تربت على كتفي من الخلف، كان رجلاً أسمر هو الآخر ويشبه الصبي، تعرفت إليه، كان والد الصبي، طلب مني أن أنضم لعائلته التي تجلس في طرف الحديقة.

الرجل كان أسمر، زوجته شقراء، وأولاده الخمسة كانوا سَلَطَةً مُشّكلةً، والتزواج بين الألوان والأعراق في كوبا مسألة عادية جداً، ومنتشرة جداً، حتى تكاد تشعر بأنها الأصل. على عكس أميركا (بلد المساواة) التي يندر أن تشاهد فيها هذا المشهد. وحينما سألت الزوجين، بعد سقوط الكلفة، عن الزواج المختلط، قالا: "في كوبا ما يهم هو "الحب"، متى ما توافر الحب سقطت الشروط الأخرى". فسألت: أَلَمْ تَشْعرا بالغرابة من الموضوع؟ "وما الغرابة في الموضوع، كل شيء يَنجذبِ لعكسه!".

وبعد جلسة مطولة مع العائلة، سألاني أين أقيم، فأجبتهما بالإجابة المعتادة: "أنا خليفة الله في الأرض، لذا فأنا أنام في أي مكان يحلو لي". يبدو أنهما استطابا معشري، فدعواني إلى النوم في بيتهما.. مجاناً!

أكرمتني العائلة الجديدة، بإعطائي سرير ابنتهم الصغيرة، فقد رفضوا أن أنام في غرفة الجلوس، وفي الصباح أعدوا لي إفطاراً خفيفاً وقهوة لذيذة. والقهوة في بيوت كوبا تذكرني بالقهوة في كوستاريكا، لأنها طازجة، يشترونها من المزارع أسبوعياً (للعلم القهوة الطازجة يجب أن تشرب خلال 7 أيام من قطفها، لأنها تموت بعد ذلك، وهذا لا يحصل إلا في أماكن نادرة في العالم، وتحرص "مافيا القهوة" في العالم على إخفائه عنا). وأردت الخروج إلى غابة صغيرة تبعد ساعتين مشياً، فأخبرتني الأم بأنه سيقام احتفال يسمونه كرنفال القمر في إحدى ضواحي المدينة، لذا علي أن أعود إلى المنزل قبل السادسة. في الطريق إلى الغابة، وجدت ثلاث فتيات من دول مختلفة: غانا، اليونان، كوبا. فرحن لوجود سائح "رجل" يرافقهن إلى الغابة، فقد كن يخشيّن أن يحصل لهنّ شيء وهنّ فتيات. استغللت الفرصة لأندد بمكر النساء وتحايلهن، فقلت: إذا أردتن الحصول على امتياز رجولي فاقرعن أجراس المساواة، وإذا أردتن الحصول على واجبات الرجل وامتيازاته فارفعن شعار رقة الأنوثة.

الغريب أن الفتيات أيدنني بشدة، وقالت لي اليونانية: "في ثقافتنا وجزيرتنا لا زلنا نفرق بين الأدوار الذكورية والأنثوية". أما الفتاة الغانية فقد كانت على معرفة جيدة بأصول الرحلات البرية، وهي منْ جَهّزَ الطعام وصفّى الماء من النهر وأعد كل شيء تقريباً، وقالت لي إنها كانت تخرج في رحلات صيد مع والدها وتعلمت كل فنون الرحلات. وفي نهاية اليوم حصلت على دعوة عشاء في اليوم التالي إلى منزل الفتاة الكوبية لتجربة طبخ أمها.

في المساء ذهبت مع عائلتي إلى الكرنفال، كان بسيطاً جداً، من إعداد البلدية ومن تنفيذ طلبة المدارس. أجمل شيء في الكرنفال هو سعادة الناس المنتشرة أفقياً وعمودياً، كانوا كلهم يعرفون بعضهم بعضاً، ويتبادلون الأكل والشراب ويطربون لموسيقى الشارع، ويصفقون لأبنائهم المشاركين في الاستعراضات. كان لدي كاميرا ديجيتال، وخلال ساعة أصبحت أنا وكاميرتي حديث الكرنفال كله، وأصبح الأطفال يتحلقون حولي لمشاهدة المعجزة التي جاء بها العربي من وراء البحار.

عوضتني ترينيداد عن الجفاف الاجتماعي الذي أصابني في هافانا بسبب جشع الناس، وأعادت لي إنسانيتي وانفتاحي وثقتي في الآخرين. نحن نظلم العالم حينما نعتقد أن كل مدينة تشبه جارتها، السفر يعلمك بأن كل شارع يختلف عن الذي يليه.


الجزء الأول  والجزء الثاني من المقال.

حساب الكاتب على أنستغرام @Q8BackPacker

(الكويت)

المساهمون