كلّ عام وأنت أبي

26 مارس 2018
... وأراها ناعمة ورقيقة (آنّا مينغاردي/ Getty)
+ الخط -
للجميع آباء لكنّ أبي غير بقية الآباء. تنقذني شباكه عندما أقع. تنقذني لترميني مجدداً نحو الأعلى. فأرتفع لألمس السماء والغيوم. أمسك نجمة سمّيتها في صغري "أمل" على اسم أمّي. وحده أبي من يساعدني لأحضن أمّي.

أَسقط من السماء نجمةً مضيئة. أقف وأنظر من حولي. أين أنت؟ عد وادفعني من جديد. ارمِ بي بعيداً عن خوفي وقلقي وأفكاري المتعبة. دع جسدي يلمس خيوط شباكك. فننسج سويًّا شباكًا جديدة، أكثر تماسكاً.

يراني أبي على الدوام وقليلاً ما أراه. ومن بعيد، يقلق أحدُنا على الآخر. نختصر تفاصيل أيامنا بكلماتٍ معدودة عندما نلتقي: "كيف حالكِ؟"، يسأل مبتسماً. "بخير"؟، أردّ عليه. لكن أبي يعلم متى أكون بخير ومتى لا أكون كذلك.

يوزّع أبي نفسه علينا بالتساوي. يعطي لأمي يداً فتمسكها مطمئنة. يعير شقيقتي يده الأخرى. يهب لصغيرة البيت قلبه ويقدم النصيحة لأكبر أشقائي. أمّا السّند فلي. والسند هو تلك الشباك التي أقع عليها لأرتفع مجدداً. هذه الشباك لي أنا وحدي.

في حقيبتي الصغيرة أحتفظ بصورة أبي. ألفّ وجهه الأبيض والأسود بعناية. أريه لمن يسألني عنه. وعندما يُعيبون على الصورة قِدَمها أقول إنّ أبي لا يشيخ. أبي شابٌّ وسيظل شاباً.

أحلم لو يتقلّص جسدي فأذوب في حضنه. لو أصبح خفيفةً وأطفو على يديه. هو من أطلب منه قراءة الفاتحة بصوتٍ عالٍ كي يذهب الخوف من قلبي عندما تقصفنا إسرائيل. يبسمل أبي فتمتنع إسرائيل عن قصفنا.

أشعر به خلفي. أبي خلفي دائماً. هذا السّند، وتلك الشباك ثابتة لا يهزّها أحد غيري. لا يعيب أبي عليّ قلّة كلماتي. صحيح أننا نصمت كثيراً لكننا نقول الكثير في صمتنا. وأنا أنتقي كلماتي بعناية حين أتكلّم. أخشى أن أن أقول ما قد يقلق راحته.

اليوم عيد ميلادك يا أبي. هذا يعني في العرف انتقاء هدية. لم أصادف يوماً من قدّم الهدية المناسبة لمن وهبه الحياة. ثمّ ما هي الهدايا؟ كتاب؟ أسطوانة قديمة؟ لوحة ثمينة؟ قميص أنيق؟


أبي. أرغب لو أنزع الآن من فستاني وردةً وأهديها لك. لو أكتب لك قصيدة. أتعلم ما في يديك من قوة؟ تمرّر يدك عليّ فيزول التعب. يرى الآخرون خشونةَ في أصابعك وأراها ناعمة ورقيقة.

علّمتني يا أبي كيف أرتّب الحروف. وعلّمتني أيضاً أنّ في البوح قوّة، وفي الاعتراف بمشاعرنا قوّة. وأنا ضعيفة أستمدّ القوة منكَ وحدك. فأنت جميلٌ يا أبي كتلك النجمة التي أحتفظ بها في حقيبتي، أجول بها الشوارع.

كلّ عام وأنت أبي.

المساهمون