عندما خطف الألزهايمر الحاجة خديجة

21 سبتمبر 2017
كأنّما هي في عالمها الخاص (Getty)
+ الخط -

"قدر الإمكان، حاولنا حثّها على عدم الانسحاب من الواقع. لم نشأ فقدانها كلياً". هي والدتها التي رافقتها بيوميّاتها طيلة عقود، فكيف تسمح لها بأن تنسحب ببساطة وكيف تتحمّل أن يخطفها الألزهايمر فتفقدها؟ لم يكن ذلك بديهياً بالنسبة إلى وسام، ومرّت السنوات الأخيرة قاسية على البنت الصغرى - من بين ستّ بنات وابن واحد للحاج سامي والحاجة خديجة - إذ راحت تشهد تدهور حالة والدتها يوماً بعد يوم.

"في البداية، صارت ماما تعيد الخبريّة نفسها أكثر من مرّة، في غضون نصف ساعة. اصطحبناها إلى طبيب في الجامعة الأميركيّة في بيروت، بدا حاسماً وهو يقول لنا إنّها لا تشكو من أيّ علّة". لم تقتنع وسام بذلك، ولا سيّما أنّ الحاجة خديجة "راحت تنسى الأحداث الجديدة، تلك التي وقعت في السنوات الأخيرة، بينما كانت ذاكرتها للأحداث القديمة حيّة جداً". شكّت وسام التي تحمل شهادة في علم النفس، في أنّ والدتها قد تكون مصابة بالألزهايمر، وكانت استشارة لطبيب آخر رأى أنّه "من الجيّد اكتشاف المرض في بداياته". وقال: "صحيح أنّه لا يتوفّر أيّ علاج من شأنه وقف المرض، غير أنّ ثمّة ما يساعد على عدم تفاقمه بسرعة".

بقيت الحاجة خديجة في بيتها في بعلبك، يحيط بها أولادها ورفيق دربها الحاج سامي، الأمر الذي ساعد في عدم تدهور حالتها بسرعة. "لم نُشعرها في يوم بأنّ ثمّة خطباً ما. وهي كانت ذكيّة، ففي أحيان كثيرة كانت كأنّها تحاول استدراك الأمور. عندما كانت تنسى أسماء أحفادها على سبيل المثال، كانت تسأل أمّهاتهم: كيف حال من فارقتِهم؟ كيف الصغار والكبار؟".

وتستعيد وسام لحظات ومواقف كثيرة، وكيف كانت تحرص في بداية اكتشاف المرض على اصطحاب والدتها في نزهات وزيارات، "فتتحوّلين أنتِ إلى والدة لها في حين تتحوّل هي في بعض الأحيان إلى طفلة صغيرة". وفي حين كانت قدراتها الذهنيّة والإدراكيّة تتدهور أكثر فأكثر، "راحت تتطرّق إلى مسائل لم تثرها من قبل، وتحكي عن أمور كانت تزعجها وكان من المعيب التحدّث عنها في زمن مضى. وفي أوقات أخرى، راحت تسرد وقائع لم تحدث فعلاً، لكنّها كانت تتمنّى لو أتت بها". كأنّما في عالمها الخاص، راحت تعوّض ما فاتها.

"أنا بنت الشيخ مصطفى".. هذا ما كانت تكرّره حتى النهاية، في حين تخبر بفخر قصّة حياته، "فوالدها كانت له مكانة خاصة لديها. هو توفّي وهي في الثانية عشرة من عمرها، وظلّت تُخبر كيف كان مصرّاً على إكمال تعليمها وتعليم أختها. لكنّ أخاها بعد وفاته، لم يرضَ بذلك". ووالد الحاجة خديجة كان قد عُيّن قاضياً شرعياً في بيروت، فنزلت العائلة كلّها من بعلبك للالتحاق به. لكنّه قضى بعد مدّة من استلامه مهامه، وهو في الرابعة والخمسين من عمره. كانت تلك صدمة كبيرة بالنسبة إليها وبقيت ذاكرتها تستعيدها.




بكثير من الفخر، تقول وسام: "لم تنسني ولا في مرّة واحدة". وهو ما يعزّيها اليوم، من دون شكّ. والحاجة خديجة التي راحت تنسى كثيرين - وهو أمر طبيعيّ في مثل حالتها - لم تنسَ قطّ زوجها الذي كان دائماً حاضراً، على الرغم من أنّه بقيَ يقصد يومياً محلّ الأقمشة الخاص به في السوق. ففور عودته، كان ينادي عليها سائلاً: "كيفك يا حجّة؟". كان يحاول خلق جوّ حيّ في البيت. والحاج سامي لم يكن يدرك حقيقة مرض زوجته، "كلّ ما كان يعرفه أنّها كانت تنسى. بالنسبة إلى كثيرين، ومنهم أبي، فإنّ النسيان هو مرض كبار السنّ".

قبل أن تُصاب بجلطتها الدماغيّة الأخيرة في أواخر عام 2014، "كان تدهور حالتها مقبول، ولم تكن تقوم بأمور خارجة عن المعقول، باستثناء مغادرتها البيت في مرّة وتوجّهها إلى بلدتها نحلة، القريبة من بعلبك، باكراً في الصباح، من دون إعلام أحد منّا. هي كانت قد أخبرت أبي بنيّتها تقديم واجب عزاء هناك، لكنّه لم يتوقّع أن تفعل.. وفاجأتنا".

وبعد بقائها لفترة في المستشفى على أثر إصابتها بتلك الجلطة، "نصحنا الأطبّاء بنقلها إلى البيت حتى لا تفقد التواصل مع محيطها وتتدهور حالتها أكثر. والجلطة بحسب أحد الأطبّاء، أتت من جرّاء الدواء الخاص بالألزهايمر. لكنّها قد تكون كذلك نتيجة عدم تناولها دواءً مسيّلاً للدم على خلفيّة إصابتها بقرحة في معدتها". وعادت الحاجة خديجة إلى بيتها، "ورحنا نحاول تحريكها باستمرار وجعلها تجلس في الخارج وفي الحديقة. فهي كانت تحبّ الأزهار والشتول كثيراً. وكانت كثيراً ما تقترب منها وهي على كرسيها المتحرّك وتلمسها، لتقول بحزم: هيدي مش مسقيّة. وتطلب الماء لسقايتها". طوال حياتها، خصّصت وقتاً لأزهارها وشتولها، حتى في ساعات متأخّرة من الليل عندما ترى ضرورة تغطيها لحمايتها من البرد. والحاجة خديجة كانت امرأة قديرة في تدبير شؤون منزلها، وكانت خيّاطة ماهرة وتحيك كذلك الكروشيه. بقيت تقوم بذلك حتى بعد إصابتها بالمرض. وفي عام 2006، عندما طلبت منها إحدى حفيداتها أن تعلّمها الكروشيه، فعلت بداية لكنّها عجزت عن إكمال ذلك.

وتذكر وسام جيّداً كيف أنّها في أحد الأيّام، "صارت تقول لي: بدّي روح على بيتي. أجبتها: هذا بيتك. لكنّها أصرّت: مش هيدا بيتي.. هلّق أمّي بتكون ناطرتني". لكنّ الحاجة خديجة، بحسب ابنتها الصغرى، لم تتحدّث في أيّ يوم آخر عن أشخاص متوفّين على أنّهم على قيد الحياة، مثلما يفعل مرضى ألزهايمر آخرون، كذلك "لم أشعر في يوم بأنّها تخاف من الموت".

في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2015، أسلمت الحاجة خديجة الروح وهي في الثالثة والتسعين من عمرها، لتنسحب من الحياة بجسدها وذهنها اللذَين أرهقتهما الأمراض، بعدما حرصت وسام والعائلة جمعاء على عدم انسحابها من الواقع في سنواتها الأخيرة.. بعدما حرصت على بقائها "موجودة".