على ساحل المتوسط

05 يوليو 2016

بيروت كما تبدو من الجامعة الأميركية نهاية القرن 19(Getty)

+ الخط -

تقع مدينة بيروت على ساحل البحر الأبيض المتوسط...

أذكر أننا كنا نمرّ بالبحر أنّى يمّمنا، أنه كان هنا، على مقربةٍ، يجاورنا باستمرار، إلى درجة تكاد تنسينا أحياناً وجوده. أذكر أنه كان هنا، في المتناول، ننزل إليه مراتٍ، على غفلةٍ، من دون استعدادٍ أو نيّة مسبقة. نراه، فيهبّ الشوق فجأةً في داخلنا، ونصرخ: الماء يا أبي، الماء.

يركن أبي السيارة على الكورنيش، فنخلع أحذيتنا، نحن العائدين من زيارة الأحد الأسبوعية إلى العمّتين القاطنتين في وادي بو جميل، ونبدأ الركض قبل أن تدركنا صيحاتُ أمي وتنبيهاتها علينا أننا لا نجيد السباحة، وقد نغرق إذا سلّمنا أنفسنا إلى الموج. لكننا نتابع الركض حفاةً، ولا نهاب الزرقة الفاضحة، ولا المدى المفتوح. نغرز أقدامنا الطريّة الندية، نحن أبناء الجبال، في الرمال الدافئة البيضاء، نشعر بالحبيبات تنزلق من بين أصابعنا، فيما يُلاعب ثيابَنا وشعورَنا هواءُ أول الصيف. وإذ  يسقط أخي الصغير في الماء، وتبتلّ ثيابه، تهلع أمي فتطلق صفارة إنذارها، قبل أن يُصاب أخي الوحيد بنزلةٍ صدريةٍ، أو بما لا يحمد عقباه، تحثنا على العودة إلى السيارة، هي التي أنجبتنا، نحن بناتها الأربع، في ما يشبه تمريناً على إنجاب الصبيّ. وإذ نرجع منكسرات، لعدم اكتمال لحظة اللقاء، يخلع أبي قميصه، لتلف به جسد طفلها البليل، ويبقى هو في فانيلا بيضاء.

أذكر أن بحر بيروت كان هنا، وأننا كنا نأتيه في ليلة رأس السنة، قبل تمام الثانية عشرة ليلاً بقليل، لكي نتفرّج على السفن الراسية التي تشتعل بأضوائها، وتضج بإطلاق نفيرها، مؤذنةً ببدء العام الجديد. كنت أتشبث بيديّ الصغيرتين بحافة الكورنيش الحديدية، وكان المشهد الدائر أمامي على رصيف الميناء، يجعلني أرتجفُ بعنف، إذ لم يكن ما يجري في صدري قابلاً للترجمة بكلام، ولا حتى بالصراخ. كان فيه شيء من السحر، ولم تكن الدهشة، حينئذٍ، شيئاً صعباً على الطفولة. فالمياه إذ تضيء، تعكس ألقَ الأرض والسماء حين تلتقيان معاً، وهما قلّما التقتا، فكيف حين يكون قمرٌ مكتملٌ واطئ ومبتسم ومائل الرأس هو ثالثهما.

دائماً، كان البحر هنا. ومع ذلك، قلّما أكلنا من خيره، إذ لطالما اعتُبر سمكُه وثمرُه طعاماً للأغنياء، يصيدهما الفقراء ليعتاشوا. هذا صحيح. لكن، من دون أن يتذوّقوه. ولطالما كان البحر هنا، هذا صحيح أيضاً، نتنفس من رئتيه، ونحلم مع زرقته، وننمو في مداه، نحبّ وضوحه، ونركن لهمسه ويواسينا هواه. لكننا، للأسف، ما عدنا نراه. اختفى تماماً كما اختفت البلاد. صار ظلاً لذاته، كما صارت البلاد. جلبوا الركام والدمار والخراب التي خلفتها الحرب، ثم جعلوا يضغطونها حتى تحوّلت إلى مساحات ردم شاسعةٍ أبعدت عنّا المياه، وأخفتها خلف مجمّعاتٍ، ومشاريع عمرانية، وصالات عرضٍ ولهو ومطاعم باهظة الأثمان.

بقي هناك فقط شاطئ الرملة البيضاء المجّاني، 1800 متر بـ 75 متراً من التفلّت والمدى والزرقة والبياض. متنفّس العاصمة الأخير، وشاطئ أهالي المدينة من فقراء ومتوسطي الحال، من الأملاك العامة التي طلع اليوم من يريد أن يحوّلها إلى فضاءٍ مقفلٍ وخاص - كما سبق له أن افتعل بأمكنة أخرى - عبر إبراز صكوك وسندات ملكيةٍ خاصة. لكن شاطئ الرملة البيضاء صُنّف تاريخياً من الأملاك العامّة، وقد اعتبرته الحكومة اللبنانيّة موقعاً طبيعيّاً محميّاً بأكمله، وثروة بيئية، يحقّ الولوج إليها من دون عوائق، حتى لو كانت لبعض أقسامها سندات ملكيّة خاصّة. اليوم، الرملة البيضاء غارقٌ في مياه مسارب الصرف الصحيّ التي استحدثتها بلدية بيروت، ومهدّد بوحوش الاستثمار، ومحاولات وضع اليد على الأملاك العامة.

لم يعد هناك بحر في المدينة المتوسطية التي هجرتها المياه. كل ما بقي هو شاطئ الرملة البيضاء، فعسى ألا تأتي عليه حيتانُ المال.

 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"