في 1888، وضع الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه كتاباً جرت ترجمته إلى العربية بعنوان "غسق الأوثان" (تعريب علي مصباح). بعد سنة، ولد ميخائيل نعيمة (1988 - 1889) في بسكنتا اللبنانية، وكان له هو الآخر مؤلفٌ يحمل عنواناً شبيهاً "الأوثان" (صدرت طبعته الأولى في 1946).
كتابان يجتمعان في إعطاء مفهوم أوسع لمفردة "الوثن"؛ أبعد من ذلك المجسّم المادي الذي تجري عبادته، كمدخل للنظر في اصطناعات الحدود التي يختلقها البشر لأنفسهم.
أفكار نيتشه التي أرادها أن تكون مثل "مطرقة" تضرب "الأوثان" وجدت صداها في الغرب بعد سنوات قليلة، وتحوّلت إلى مناخ عام، في الفن والأدب والفكر، وهي أجواء عرفها ميخائيل نعيمة الذي انتقل في 1905 للدراسة في روسيا، وكانت وقتها في عزّ الغليان الثوري، وفي 1911 حين ذهب إلى الولايات المتحدة الأميركية وكانت هي الأخرى ميداناً للعواصف الفكرية المختلفة.
هناك، كان شاهداً على أن الانتباه إلى أوثان بعينها (نيتشه اهتم بأوثان الفلسفة والأخلاق أساساً) لا يعني أن الناس قد خرجوا عن سيطرتها، بل بالعكس يصطنعون في كل مرّة أوثاناً جديدة. ولعل ترتيب الأوثان الذي وضعه، وكان المال على رأسها، نابع من سنوات حضوره في أميركا بداية القرن العشرين، حيث خطت الرأسمالية خطوات عملاقة هناك، حتى بدا له أن الناس يفسحون للمال مجالاً في قلوبهم أكثر من معبوداتهم الدينية.
ربما بتأثّر مباشر بالمنهج الجينيالوجي النيتشوي، يعود الكاتب اللبناني إلى أصل المال، فقد كان في البداية "حيلة استنبطها الإنسان لتيسير شؤون المعيشة، كما استنبط الإبرة والدولاب وحروف الهجاء والطباعة" لتجاوز الصعوبات التي يخلقها التقايض كطريقة تبادل. منذ وجوده، "جعل المال المتعذّر ممكناً والمرهِق سهلاً"، وبعد ذلك "أقام لكل ما يتداوله الناس أثماناً"، وفي النهاية بات الناس "يضحّون له بأثمن ما في حياتهم من صدق وشرف ووجدان (..) ناهيك بالأعمار التي يحرقونها على مذبحه شمعاً وبخوراً".
قد لا يكون ثمة جديد يقدّمه نعيمة عند القول بعبادة المال، ولكنه يقدّم إشارة ذكية حول استعمال المال لستر كل هذه القبائح التي يُنتجها؛ إذ يقول "نستر خِزينا وحيفنا بستار واه من فضيلة جرباء ندعوها الإحسان".
وهنا يجدر التوقف عند المناخ الأميركي مرة أخرى، فقد ظهرت هناك مع تراكم الثروة نزعة العمل الخيري التي أطلقها رجل الصناعة أندرو كارنغي (1935 – 1919) بأن خصّص صناديق لمساعدة الفقراء، وبناء المكتبات والمستشفيات، ولكن سرعان ما تحوّل هذا العطاء إلى شكليات إعلامية وتبرير أخلاقي لكامل النظام الرأسمالي.
هكذا يُظهر نعيمة الإحسان كوثنٍ صغير متفرّع عن وثن المال، ويمكن القول مع مرور العقود أن هذا الوثن الصغير قد ترعرع في المناخ الرأسمالي والعولمي حتى بات هو الآخر وثناً كبيراً مستقلاً بذاته. أوثان كثيرة أخرى تُرفع للمغالطة لم يذكرها نعيمة، منها أوثان حقوق الإنسان أو الديمقراطية أو توفير التكنولوجيا، تخفي وراء ألوانها البراقة العودة إلى "سلطان الإنسان على الإنسان".
ينتبه صاحب "الغربال" إلى وثن آخر هو الرأي العام، وهو يجده على عكس مسمّاه رأي الذين يغذّونه كي يكون كما يريدونه أن يكون، وبعده تتحوّل الجماهير إلى "قطعان تساق إلى المسلخ بمثل السهولة التي تساق بها إلى المرعى"، بتعلة أن الخيارات السياسية التي تتخذ إنما هي تنفيذ لرغبتها.
مقارنة بعناوين الفصول الأخرى (المال، القوة، السلطان، العلم، القومية..)، يبدو عنوان أحد الفصول غامضاً أو على الأقل مغرقاً في النزعة الاستعارية؛ "الكلمة السوداء"، والتي يقصد بها المؤلف "الكلمة المطبوعة"، إنه الوثن المنتج للكتاب والجريدة وغير ذلك، وهذه الوسائل بدل أن تقدّم المعرفة والمُثل، فهي تستعمل "للتمويه والتخدير، وهي للتشويق والتهويش، وهي لصبغ الثلج بلون الفحم، وصبغ الفحم بلون الثلج، ولتمزيق الغشاوات عن الأبصار عند الحاجة ولسدلها عن الأبصار عند الحاجة".
ينبّه صاحب "الغربال" إلى أن للأوثان عصمة في أذهان الناس تؤهّلها لعبادتهم العمياء، ومثال ذلك العلم، في حين أن ما فعله العلم بالبشرية أخطر مما فعله الجهل من حروب وانهيار أخلاقي وغير ذلك.
في نهاية عمله، يظهر نعيمة شيئاً من التحسّر، يقول: "هناك أوثان وعباداتُ أوثانٍ لا يتسع هذا الكتيّب للحديث عن كل منها على حدة، كعبادة البطن، وعبادة الملاهي، وعبادة اللياقات الاجتماعية التي أصبحت قشوراً بغير لباب، وعبادة السرعة التي تسابق الزمان ولن تسبقه، وإن سبقته فلن تدري ماذا تعمل بالوقت الذي وفّرته، ولعل أغرب تلك العبادات هي عبادة العبادة".
هنا يصعد أكثر البعد الوعظي للعمل، والذي يفسد الكثير من الأفكار ويمنعها من الوصول أبعد في "الضرب" على الأوثان، حتى أن مطرقة نعيمة تبدو مطرقة رومانسية في كثير من الأحيان، وهو ما يظهر جلياً في قفلة كتابه حيث يقول "ميراثنا الحياة – كل الحياة – بجمالها وجبروتها، ننصرف عنها إلى عبادة أوثان ليست من الإنسان إلا بمثابة مفروزات الجسد من الجسد".