ذكرى مجزرة رابعة: الانتقادات الحقوقية لا توقف جرائم النظام

14 اغسطس 2019
يرغب النظام بالقضاء على كل ظلال "رابعة" (غد جيلز/Getty)
+ الخط -
تحل الذكرى السادسة لمذبحة فضّ اعتصامي رابعة والنهضة، التي وقعت في 14 أغسطس/آب 2013، وشهدت سقوط مئات الضحايا، ولا جديد في المشهد السياسي المصري المنغلق، الماضي قدماً نحو مزيد من القمع وتقييد الحريات وتوطيد الحكم الديكتاتوري بتعديلات دستورية تتيح للرئيس عبد الفتاح السيسي البقاء في الحكم لأطول فترة ممكنة وعصفٍ بالمنافسين، لكن علاقة النظام المصري بالقوى الخارجية تضررت كثيراً بسبب أوضاع حقوق الإنسان، خصوصاً في أعقاب حادث وفاة الرئيس المنتخب المعزول محمد مرسي أثناء محاكمته في يونيو/حزيران الماضي.

وإلى جانب انتقادات أوروبية متصاعدة، جاء توجيه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو رسالة في شهر تموز/يوليو الماضي إلى مجموعة العمل الخاصة بحقوق الإنسان في مصر، وإبداؤه القلق من الأوضاع داخل السجون المصرية بمناسبة وفاة مرسي، لتؤكد للنظام المصري، تأهب الدوائر الغربية بصفة عامة، والأميركية بصفة خاصة، للهجوم عليه من ثغرة حقوق الإنسان، والبناء على الخلفيات القديمة التي كانت تعرقل تطور العلاقات بين إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما ونظام السيسي، ومن بينها مذبحة "رابعة"، وبناء النظام السياسي الجديد على أنقاض حكومة منتخبة ديمقراطياً.



وعلى الرغم من أن الملاحظات الغربية الأخيرة لم تؤد مباشرة إلى تحقيقات أممية في ملابسات وفاة مرسي ترمي إليها المساعي الحقوقية المصرية والدولية، لكنها تعتبر حلقة في سلسلة جديدة من الانتقادات الممنهجة، بعد فترةٍ من الصمت. وبدأت الانتقادات بتقرير الخارجية الأميركية الأخير عن حالة حقوق الإنسان في مصر، ما يؤكد عدم رضا جميع دوائر وشخصيات البيت الأبيض عن استمرار التعاون مع السيسي، وعن تجاهل ممارسة الضغوط لتحسين أوضاع حقوق الإنسان والتعامل مع المجال العام بمعناه الواسع، بما في ذلك الحريات الشخصية والعامة على حدٍّ سواء، خصوصاً أوضاع حرية التعبير والنشر والتنظيم والمشاركة السياسية والعمل الحزبي والأهلي، إلى جانب محاور أخرى تمسّ الجرائم طويلة الأمد المنسوبة لهذا النظام، والمتعلقة بإراقة الدماء والقتل المنظم والإخفاء القسري والمحاكمات غير العادلة والإعدامات.

وسبق لمنظمات حقوقية دولية وإقليمية أن وجهت انتقادات لاذعة ومتواصلة لحالة حقوق الإنسان بمصر انطلاقاً من فضّ اعتصامي رابعة والنهضة. وتعبّر هذه الاستمرارية، مع عودة الانتقادات للهجة الدبلوماسية الأميركية، عن نجاح العمل الذي تقوم به المنظمات والنشطاء الحقوقيون المهتمون بالأوضاع في مصر أخيراً، في اجتذاب أنظار واهتمام مسؤولين داخل البيت الأبيض، ارتباطاً بأخذ مكتب الديمقراطية بالخارجية الأميركية بجميع الملاحظات التي اعتادت المنظمات الأجنبية والعربية تقديمها إلى واشنطن سنوياً بمناسبة إعداد التقرير السنوي.

وترى مصادر دبلوماسية مصرية، في أحاديث مع "العربي الجديد"، أن عودة الانتقادات الأميركية على هذا المستوى، تعكس رغبة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في عدم الدخول في صدام مباشر مع السيسي بسبب هذا الملف، مع استمرار ممارسة بعض الضغوط وتوجيه رسائل، بعضها مباشر والآخر غير مباشر، لإشعار النظام المصري دائماً بأنه يقع تحت الضغط، بالتوازي أيضاً مع عدم رضا المنظمات الأميركية المانحة التابعة للحزبين الجمهوري والديمقراطي عن علاقة الحكومة بالمنظمات المحلية والأجنبية العاملة في مجال حقوق الإنسان.



ويمكن القول إن الانتقادات عادت بسبب استمرار النظام في التنكيل بالمعارضة بصفة عامة وجماعة الإخوان المسلمين بصفة خاصة. وكان أحدث الأشواط التي قطعها النظام في هذا الصدد توجيه الاتهام لجماعة "الإخوان" بالضلوع في حادث التفجير الإرهابي الأخير في محيط معهد الأورام على الرغم من غياب الأدلة المنطقية أو الواقعية على ذلك.

وفي مطلع العام الحالي، وعلى خلفية رغبة النظام في القضاء على كل ظلال مذبحة رابعة، وتناسي ما تمثله من أهمية محورية للعلاقة بين الدولة والإنسان المصري، تمّ إعدام الشبان التسعة المتهمين بالضلوع في عملية اغتيال النائب العام السابق هشام بركات، وتمّ إعدام ستة آخرين في قضيتين أخريين. في موازاة ذلك، أوقفت الضغوط الدولية سعي النظام الحاكم لإعدام جميع المتهمين الذين أيدت محكمة النقض إعدامهم خلال العامين الماضيين، للتأكيد على سرعة معاقبة المدانين وعدم تمتعهم بفرص أخرى للالتماس أو التظلم من حكم الإعدام كما كان يحدث سابقاً، عندما كانت الفترة الفاصلة بين صدور الحكم النهائي والتنفيذ تصل إلى أعوام عدة.   

وفي سبتمبر/أيلول الماضي، أصدرت محكمة جنايات القاهرة برئاسة القاضي حسن فريد، واحداً من أضخم الأحكام الجنائية في تاريخ مصر، بإدانة 734 شخصاً وتوقيع عقوبات من السجن المشدد لمدة خمس سنوات إلى الإعدام بحق 75 منهم، لاشتراكهم جميعاً في اعتصام رابعة، بدون مساءلة شخص واحد ينتمي للجيش أو الشرطة، ولا تزال محكمة النقض تنظر الطعون على هذا الحكم.

ويمكن التأريخ لعودة الانتقادات الحقوقية بصدور ذلك الحكم، بالنظر للتراشق الذي وقع حينها بين وزارة الخارجية المصرية وبين المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان ومعها عدد من المنظمات الدولية، حول افتقار الحكم لأسس العدالة وعدم موضوعية وحياد المحكمة.

وقد ألقى هذا التراشق بظلاله على زيارة السيسي لنيويورك لحضور اجتماعات الأمم المتحدة، حيث تلقى هو وفريقه - بحسب مصادر دبلوماسية - تساؤلات تتعلق بالمضي قدماً في القمع الأمني للمعارضين، والتنكيل بمجموعات الإسلام السياسي، ما يمهد البيئة لإنتاج مجموعات إسلامية أكثر تطرفاً من تنظيم "داعش". ويأتي ذلك مع حصول بعض النواب الأوروبيين والدوائر الدبلوماسية على معلومات استخبارية تفيد بانتشار التطرف الديني في السجون المصرية، وتحول الآلاف من شبان جماعة "الإخوان" إلى أفكار أكثر تطرفاً تقوم على تكفير الحاكم والمحكومين والنظام القضائي والجيش ووجوب محاربتهم بالقوة. ويضاف إلى ذلك انتشار شهادات على مواقع التواصل الاجتماعي ودراسات أعدها باحثون أجانب مقيمون في مصر عن تحول الإسلاميين في السجون إلى قنبلة موقوتة لن تنفجر في وجه النظام الحاكم فقط، بل يمكن أن تمتد أخطارها إلى أوروبا والولايات المتحدة، فضلاً عن تصاعد الانتقادات لعدم استقلال القضاء المصري. 


وعلى الرغم من أنه كان من المعتاد في القضاء المصري إلغاء مثل هذه الأحكام الضخمة والقاسية في درجة النقض، إلا أن التعديلات التشريعية التي أدخلها السيسي في إبريل/نيسان 2017 على نظام العمل بمحكمة النقض وإجراءات الطعن، ستصعب حصول المتهمين على أحكام مرضية لدفاعهم. وأصبحت محكمة النقض ملزمة بالفصل موضوعياً في الطعون عندما تصل إليها، ما يعني عدم إعادتها القضية للنظر مرة أخرى أمام دائرة أخرى بمحكمة جنايات القاهرة كما كان معتاداً في السنوات السابقة.

وسيؤدي هذا النظام الإجرائي الجديد إلى تعقيد إجراءات نظر محكمة النقض للطعون التي من المتوقع أن تصل إلى 715، وهو الرقم الذي يمثل المتهمين الحاضرين والمدانين جميعاً، لأن المتهمين الذين حصلوا على أحكام بالسجن لمدة خمس سنوات سوف تكون لهم مصلحة أكيدة في الطعن أيضاً على الحكم حتى بعد خروجهم من السجن. ويعود السبب برغبتهم في الطعن لارتباط إدانتهم بأحكام المراقبة الشرطية ومنعهم من التصرف في أموالهم، ما سيستغرق ربما سنوات لنظر الطعون وفق إجراءات بطيئة وبيروقراطية.

وعلى الرغم من هذا الطريق الطويل من المآسي الذي أدخل فيه السيسي ضحايا "رابعة" من القتلى والمصابين والأحياء، ومحاولات النظام المستمرة لقطع الوشائج بين هذا الحدث وحاضر ومستقبل مصر، إلا أن السيسي ورموز نظامه ما زالوا يخشون أي محاسبة مستقبلية أو إجراءات قضائية دولية من شأنها تعريض شخصيات نافذة للخطر.

فبعد الفض بأشهر معدودة، اختفى وزير الداخلية الأسبق محمد إبراهيم بعد خروجه من التشكيلة الحكومية، فسافر فترة طويلة إلى دولة الإمارات، في خطوة فسّرها مراقبون بأنها إمعانٌ في حمايته، وبعد عودته ابتعد تماماً عن المشهد السياسي.

وفي يوليو/ تموز الماضي، أصدر السيسي قانون معاملة بعض كبار قادة القوات المسلحة، الذي يجيز له إصدار قرار بتحديد بعض الشخصيات العسكرية ممن تولوا مناصب قيادية في فترة تعطيل الدستور التي وقعت خلالها أحداث رابعة والنهضة، ومنحهم حصانة نهائية من أي إجراءات قضائية بشأن أي جرائم وقعت منهم أو بمناسبة توليهم مناصبهم. كما وفّر لنفسه ولباقي القيادات حصانة دبلوماسية تحميهم من الملاحقة القانونية خارج مصر.